الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الاثنين، ديسمبر 08، 2025

حين تهمس البيولوجيا بما لا يقوله الطب: عبده حقي

 


لم تعد الأخلاقيات البيولوجية مجرّد فرع نظري في الفلسفة أو الطب، بل أصبحت مساحة واسعة يلتقي فيها العلم بضعف الإنسان، وتلتقي فيها الرغبة في التقدّم بالخوف من نتائجه. كلّ تطور جديد في الطب أو الجينوم يضعنا أمام أسئلة لم نكن نتخيلها قبل عقود قليلة، كأنّ العلوم الحديثة أعادت فتح أبواب قديمة كانت الإنسانية تتجنبها بحذر.

من بين القضايا التي تكشف حساسية هذا المجال مسألة التعديل الوراثي. التقنية تُقدَّم دائماً باعتبارها وعداً بالخلاص: علاج للأمراض النادرة، إطالة للحياة، تحسينٌ للصفات الوراثية. لكنّ هذا الوعْد يأتي دائماً مُحمّلاً بظلال أخلاقية: من يقرر ماذا يجب «إصلاحه» في الجسد؟ ومن يضع الحدود بين العلاج والتحسين؟ وهل نملك الحق في التأثير على أجيال لم تولد بعد؟

ثم هناك القضايا المتعلقة بنهاية الحياة: قرارات الإنعاش، وحدود التدخل الطبي، والكرامة الإنسانية في لحظات الضعف القصوى. هذه الأسئلة ليست تقنية فحسب، بل تمسّ بنية الإنسان العاطفية والروحية والاجتماعية. ولهذا السبب تبدو الأخلاقيات البيولوجية أقرب إلى مفترق طرق لا بدّ فيه من الإصغاء إلى أصوات متعددة: العلم، القانون، الفلسفة، وحتى الحدس الإنساني البسيط.

واللافت اليوم أنّ التطور العلمي يحدث بسرعة تفوق قدرة المجتمعات على تطوير إطار أخلاقي موازٍ. المختبر يسبق التشريع، والاختراع يسبق النقاش العام. وهنا تظهر أهمية هذا الحقل: ليس ليوقف العلم، بل ليعيد ترتيب العلاقة بين الإنسان وما يصنعه بيديه.

وربما تكمن قيمة الأخلاقيات البيولوجية في أنها تُذكّرنا بأن التقدّم العلمي، مهما بدا براقاً، لا يصبح إنسانياً إلا حين يجد لنفسه مكاناً داخل منظومة قيمية تحمي الفرد من أن يتحوّل إلى مادة تجريبية، وتحمي المجتمع من أن يقع في فخ التمييز الجيني أو التحكم في الحياة كما لو كانت معادلة رياضية.

في النهاية، يبدو أنّ السؤال المركزي في هذا المجال ليس: «إلى أين وصل العلم؟» بل: «أيّ نوع من الإنسان نريد أن نكون حين يصل العلم إلى أقصى إمكانياته؟»
هذا السؤال وحده كافٍ ليعيد ترتيب الأولويات، ويذكّرنا بأننا نسير نحو مستقبل لا يُراد له أن يكون بيولوجياً فقط، بل إنسانياً قبل كل شيء.

0 التعليقات: