الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الاثنين، ديسمبر 08، 2025

من الرباط إلى بيروت: موسم قراءة يتشكّل على مهل: عبده حقي

 


لا أحد يستطيع أن يُحصي، في جلسة واحدة، عدد الكتب التي ظهرت هذا العام في المغرب والعالم العربي. لكنّ القارئ الذي يتنقّل بين معارض الكتب، وصفحات الثقافة في الصحف، وحسابات دور النشر على المنصّات الرقمية، يلتقط بسهولة إحساسًا عامًا: هناك عودة هادئة لكن عنيدة للكتاب الورقي، واشتداد في تنافس دور النشر العربية على توقيع الأصوات الجديدة، وعلى إعادة تعريف علاقتها بالقارئ في زمن الشاشات المنيرة.

في المغرب، تبدو الصورة مركّبة. فـ«المعرض الدولي للنشر والكتاب» في الرباط تحوّل في السنوات الأخيرة إلى مرآة كبيرة تعكس حالة النشر في البلد والمنطقة، سواء في دورته العادية سنة 2024 التي خُصّص فيها محور واسع لـ«الرواية وعلم النفس»، أو في النقاشات التي أثارتها أزمته التنظيمية اللاحقة سنة 2025، وما تبعها من جدل حول علاقة دور النشر العربية بقرّائها في المغرب وشروط مشاركتها. 
هذا الجدل، بقدر ما كشف هشاشة البنية التنظيمية، أعاد طرح السؤال الأهم: كيف يمكن تحويل المعرض من «موسم بيع» عابر إلى «مختبر قراءة» يربط بين الجامعات، والمكتبات، والقرّاء الشباب، والناشرين القادمين من مشارب مختلفة؟

يكفي أن نتوقف قليلًا عند مشهد الأجنحة العربية في الرباط لنلمس هذا التحوّل. دور نشر مصرية وخليجية ولبنانية، وصولًا إلى أجنحة ناشرين من الجيل الجديد مثل «عصير الكتب» الذي حرص على الحضور في الرباط ووجه رسالة مباشرة لقرّائه في المغرب، ليقول إن الرهان لم يعد على شحن الكتب فقط، بل على بناء علاقة عاطفية ورمزية مع جمهورٍ يرى في الدار علامةً لذائقته، لا مجرّد اسم على الغلاف. 
في المقابل، تواصل دور النشر المغربية ترسيخ حضورها، من البيوت العريقة التي عُرفت بالكتاب الفكري والبحثي، إلى دورٍ أصغر تحتضن الأصوات السردية الجديدة، وتغامر بطباعة تجارب شابة في القصة والرواية واليوميات.

في الضفة الأخرى من المتوسط، وتحديدًا في بيروت، لا تزال دور النشر الكبرى هناك تتصرّف كقلب رمزي للنشر العربي. دار الآداب، التي وُلدت في خمسينيات القرن الماضي، تقدّم نفسها اليوم على منصّاتها الرقمية كشجرةٍ تتفتّح مع كل كتاب جديد؛ سلسلة من العناوين الحديثة تتوزع بين الرواية والترجمة والشعر، من «فرانتوماليا» إلى «دمشق الجديدة» و«كل العشّاق في الليل» وغيرها من الكتب التي تعكس خيار الدار في الجمع بين الأدب العالمي المترجم والأصوات العربية المعاصرة. 
هذا التنويع ليس مجرّد سياسة تجارية؛ إنّه محاولة لإعادة بناء مكتبة عربية مفتوحة على العالم من جهة، ومغرِية لقرّاء المنطقة الذين يريدون نصوصًا تتجاوز الانغلاق المحلي من جهة أخرى.

دار الساقي، من جهتها، ما زالت تتحرك في منطقةٍ تجمع بين النشر الأدبي والفكري، مع حضورٍ لافت في جوائز السرد العربية. على لائحة «الجائزة العالمية للرواية العربية» (البوكر العربية) لسنة 2025 مثلًا، نجد أكثر من عمل صادر عن هذه الدار، من «أغنيات للظلام» لإيمان حميدان، إلى «السجين الفرنسي» ليان دوست، مرورًا برواية رشيد الضعيف «ما رأته زينة وما لم تره»، وهو ما يكرّس صورة الساقي كدار تتبنّى نصوصًا قلقة، ذات حسّ تجريبي أو أسلوبي واضح. 
وإذا ما انتقلنا إلى الفضاء الأوسع، نلاحظ أنّ العديد من الروايات التي أُدرجت ضمن قوائم «أهم الروايات العربية في القرن الحادي والعشرين» تعود إلى كاتبات وكتّاب نشرت لهم الساقي، وهو ما يوضح أثر الدار في رسم ملامح الذائقة العربية الجديدة. 

لا يتوقف الأمر عند الرواية وحدها. فكتاب «A Long Walk from Gaza»، الصادر بالإنجليزية عن دار أمريكية، يعود في الأصل إلى تجربة كاتبة فلسطينية نشرت عملها بالعربية في دار الساقي، قبل أن يتحوّل إلى شهادة مترجمة عن غزة، تتجوّل اليوم في المكتبات العالمية. 
بهذا المعنى، يصبح الناشر العربي، حين يحسن اختيار النصوص وتطويرها، بوابةً لعبور الأدب العربي إلى لغات وثقافات أخرى، لا مجرّد وسيط بين كاتب محلي وقارئ محلي.

اللافت أيضًا أنّ الصحف والمنصّات الثقافية العربية، مثل «القدس العربي» في باب «صدر حديثًا»، تحوّلت إلى سجلّ يومي لحركة الإصدارات في المنطقة؛ من روايات خليجية جديدة، مثل «اللايقين» للكاتب العُماني محمد الفزاري، إلى مجموعات قصصية وشعرية من الأردن والعراق والمغرب. 
هذه العناوين لا تقدَّم بوصفها إعلانات تجارية، بل في إطار قراءة نقدية سريعة تضع الكتاب في سياقه الأدبي والفكري، وتمنح القارئ مفاتيح أولى للاقتراب منه، في انتظار قراءات أعمق في ملاحق نهاية الأسبوع أو المجلات المتخصصة.

في خلفية هذا المشهد، تشتغل خرائط أخرى أقل ظهورًا، لكنها لا تقلّ أهمية: خرائط الجوائز، ولجان التحكيم، وقوائم الكتب المرشّحة والطويلة والقصيرة. جائزة الشيخ زايد للكتاب مثلًا أسهمت في لفت الانتباه إلى أعمال روائية مثل «هند، أو أجمل نساء العالم» للكاتبة هدى بركات، الصادرة عن دار الآداب، والتي حصدت الجائزة في فرع الآداب لعام 2025، فدفعت بكتاب واحد إلى صدارة النقاش النقدي والقرائي في المنطقة. 
هنا تتقاطع أدوار ثلاثية: الكاتب الذي يغامر بنص مختلف، والناشر الذي يراهن عليه، والجائزة التي تُسلّط الضوء وتضاعف حضور العمل في المكتبات العربية والغربية على السواء.

في المغرب أيضًا، لا يمكن عزل حركة الإصدارات عن دينامية الثقافة البصرية والمعارض الفنية؛ فالمشهد الذي تلتقطه صحف عربية من معارض فنية في بيروت أو القدس، مثل المعرض الذي نظّمته «دار النمر» لاستعادة لحظة فنية عربية من ثلاثينيات القرن الماضي، ينعكس بدوره على الكتالوجات الجديدة لدور نشر تهتم بتاريخ الفن العربي، وسِيَر الفنانين، والنصوص التي تستعيد النهضة العربية كأفقٍ مفقود أو مؤجَّل. 
بهذا الشكل، يتحاور الكتاب مع اللوحة والصورة الفوتوغرافية والأرشيف، في مسعى لتجديد مفهوم «الكتاب الفني» في الثقافة العربية.

وإذا كانت دور النشر الكبرى في بيروت والقاهرة وعمان والرباط تسعى إلى تثبيت موقعها في هذا المشهد المتحرّك، فإنّ السنوات الأخيرة شهدت صعود دور أصغر، بعضها رقمي بالكامل، لا تمتلك صالات عرض ولا مستودعات ضخمة، ولكنها تحسن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وتبني علاقتها بالقارئ عبر مقاطع الفيديو القصيرة، وقراءات مباشرة على الهواء، وعروض تخفيض مرتبطة بالمواسم الثقافية (رمضان، المعارض، عطلات الصيف).
هذه الدور الجديدة لا تتردّد في الجمع بين الكتب «الرائجة» ذات العناوين الجذّابة، وكتب أخرى أكثر رصانة في الفكر والبحث، وكأنها تحاول أن تقول إن القارئ العربي ليس واحدًا، بل فسيفساء من الأذواق والسياقات الاجتماعية والمستويات التعليمية.

في هذا السياق، يبدو أن الثقافة الرقمية لم تُلغِ الكتاب الورقي، بقدر ما أعادت التفاوض حول شروط وجوده: القارئ الذي يقرأ مراجعةً لكتاب جديد على موقع ثقافي مثل «الضفة الثالثة» أو «القدس العربي»، ثم يعثر على مقتطفات منه عبر «إنستغرام» أو «تيك توك»، لا يشتري الكتاب نفسه الذي كان يشتريه قارئ التسعينيات؛ إنّه يشتري حزمة كاملة: غلافًا محسوبًا بدقة، وسردًا يلامس أسئلة زمنه، وسيرة كاتب يتابعه على الشبكات، واسمًا لدار نشر باتت جزءًا من هويته القرائية.
هكذا يتحوّل الناشر، شيئًا فشيئًا، إلى شريك في تشكيل الحساسية الأدبية الجديدة، وليس مجرد «مطبَع» يضع الحبر على الورق.

في خلفية هذا كلّه، تظل منطقة المغرب العربي بحاجة إلى جهد إضافي في الترجمة المتبادلة: كثير من الإصدارات المغربية لا تصل إلى القارئ المشرقي إلا عبر جسور الصحافة الثقافية، والعكس صحيح. لذلك، تتقدّم اليوم مبادرات خجولة — لكنها مُلحّة — لإطلاق سلاسل مشتركة بين دور نشر مغربية ولبنانية ومصرية، تضمن تبادل الحقوق، وطباعة مشتركة لكتب مختارة، وتخفيضًا في تكاليف الشحن والتوزيع، حتى لا يبقى القارئ أسيرًا لما تتيحه له جغرافيته وحدها.

ربما يمكن القول، في النهاية، إن «جديد الإصدارات» ليس هو عدد العناوين المنشورة ولا حجم الصفحات المطبوعة، بقدر ما هو القدرة على طرح أسئلة جديدة، وعلى إعادة فتح الجراح والأسئلة التي حاولت الأنظمة السياسية والإعلامية طمسها. ففي زمن الحروب والانكسارات العربية، تغدو الرواية والشعر واليوميات والسيرة الذاتية أكثر من مجرّد أجناس أدبية؛ تتحوّل إلى مساحاتٍ لكتابة ما لا يُقال في نشرات الأخبار وخطابات السياسيين.
وهنا يعود الدور الحاسم لدور النشر: أن تحمي هذه الأصوات، أن ترافقها في مسارها الصعب نحو القرّاء، وأن تظلّ، رغم الأزمات الاقتصادية والرقمية، وفيةً لفكرة بسيطة وقديمة: أن الكتاب، في نهاية الأمر، هو أرقى أشكال الحوار بين البشر، وأن كل إصدار جديد هو رسالة تُرمى في بحرٍ عربي واسع، لا أحد يعرف على أيّ شاطئٍ ستستقرّ، ولا في أيّ يدٍ ستفتح ذات مساء.


0 التعليقات: