الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الاثنين، ديسمبر 08، 2025

أخبار الجالية العربية في المهجر إعداد عبده حقي

 


تبدو أوضاعُ المهاجرين العرب اليوم كمرآة مكبِّرة لتحوّلات السياسة العالمية؛ فالمشهد العام يسير في اتجاه متناقض: حاجةٌ اقتصادية متزايدة إلى اليد العاملة، يقابلها تشددٌ أمني وقانوني وخطابٌ شعبوي يحمّل الأجانب مسؤولية الأزمات. هذا التوتر ينعكس بوضوح في الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وأوروبا الغربية، وروسيا، وصولًا إلى البرازيل وكندا، حيث تحضر الجاليات العربية بثقل سكاني وثقافي متفاوت.

في الولايات المتحدة دخل ملف الهجرة مرحلة أكثر قسوة مع قرار الإدارة الحالية تجميدَ جميع طلبات الهجرة والتجنس من 19 دولة غير أوروبية، ضمنها دولٌ عربية وإسلامية، بحجة “المخاطر الأمنية”، في امتدادٍ لنهجٍ سابق يقوم على القيود الواسعة بدل المعالجات الدقيقة. القرار ترافق مع تشديدٍ على تصاريح العمل، إذ خُفِّضت مدة صلاحية رخص العمل للاجئين وطالبي اللجوء من خمس سنوات إلى ثمانية عشر شهرًا فقط، ما يهدِّد مئات الآلاف بفقدان الاستقرار المهني والاقتصادي  وفي الخلفية، تسجِّل منظمات الحقوق المدنية مستوى قياسيًّا من الاعتداءات والتمييز ضد العرب والمسلمين في أمريكا بعد حرب غزة واستثمار الخطاب السياسي للخوف من “الآخر” . هذه الأجواء تجعل المهاجر العربي محاصرًا بين الخوف من الترحيل والقلق من فقدان لقمة العيش.

في المملكة المتحدة يتحوّل النقاش حول المهاجرين إلى معركة سياسية مفتوحة منذ إقرار قانون ترحيل طالبي اللجوء إلى رواندا. هذا القانون يستهدف كل من وصل إلى السواحل البريطانية “بطريقة غير نظامية”، وهو ما يشمل كثيرين قادمين من مناطق عربية عبر طرق البحر والتهريب. ورغم الطعون القضائية والانتقادات الحقوقية، لا يزال الخطر قائمًا بأن يجد طالب لجوء عربي نفسه أمام خيار قاسٍ: إمّا البقاء في حالة انتظار لا تنتهي داخل مراكز احتجاز مكتظّة، أو مواجهة الترحيل إلى بلد لم يختره أصلًا  وبين هذين القطبين، يواصل الطلبة العرب والعاملون في قطاعات الصحة والخدمات حياتهم اليومية في ظلّ قلقٍ من تغيّر قواعد اللعبة في أي لحظة.

في ألمانيا، حيث يشكّل اللاجئون من سوريا والعراق ودول عربية أخرى كتلةً مهمة داخل موجات اللجوء، يتزامن ضغطُ الإيواء مع التصاعد السريع لخطاب اليمين المتطرف. تقارير حقوقية تشير إلى فشل الأحزاب الديمقراطية في مواجهة السردية العنصرية التي تربط الأزمات الاقتصادية والأمنية باللاجئين، بينما تصعد شعبية حزب “البديل من أجل ألمانيا” مستثمرًا الخوف من “أسلمة” البلاد . ميدانيًا، تعترض احتجاجاتٌ عنيفة في قرى ومدن صغيرة على إنشاء مراكز استقبال جديدة للاجئين، وتتحول هذه الاحتجاجات إلى رسائل مباشرة للمهاجرين العرب بأنهم غير مُرحَّب بهم خارج المدن الكبرى .

في فرنسا تواصل الدولة إعادة صياغة سياستها للهجرة تحت شعار “التحكم في الهجرة مع تحسين الاندماج”. القانون الجديد الذي دخل حيّز التنفيذ عام 2024 رفع عدد سنوات الإقامة المطلوبة للحصول على إقامة دائمة من خمس إلى سبع سنوات، وألزم معظم المهاجرين بمستوى لغوي معيّن وبعقد “التزام جمهوري”، مع تشديدٍ على دور اللغة والعمل في تقييم “قابلية” المهاجر للاندماج . ورغم أن نسبة كبيرة من طالبي اللجوء، مثل الأفغان، تحصل على الحماية القانونية، فإن التقارير الرسمية تكشف أن أكثر من نصفهم يبقون بلا عمل بعد مرور سنة ونصف على نهاية دورات اللغة والاندماج، وهو وضع ينسحب كذلك على فئات واسعة من المغاربة والجزائريين والتونسيين والعرب عمومًا . هكذا يتحوّل “الاندماج” من وعد بالفرص الجديدة إلى دائرة من الانتظار والبطالة في ضواحي باريس والـ“بانليو”.

أما في إسبانيا وإيطاليا، فيظل البحر الأبيض المتوسط مسرحًا يوميًّا لرحلات خطِرة تشارك فيها أعداد متزايدة من الشبان العرب القادمين من شمال إفريقيا والشرق الأوسط. بيانات المنظمات الدولية ترصد استمرار استخدام الطريقين: المحور الأوسط نحو إيطاليا، والمحور الأطلسي نحو جزر الكناري الإسبانية، مع آلاف الوافدين في الأشهر الأولى من 2025، وإن كانت الأعداد أقل قليلًا من ذروة 2024 . غير أن تراجع الأرقام لا يعني تحسّنًا في الظروف؛ فكل قارب يصل يُخفي وراءه عشرات القصص عن الغرق، والاختفاء، والعنف في مراكز الاحتجاز، والتهميش بعد الوصول.

في روسيا تظهر صورة أكثر قسوة للمهاجرين من أصول مسلمة، سواء من آسيا الوسطى أو من بلدان عربية. فبعد هجوم “كروكوس سيتي هول” في مارس 2024، شهدت البلاد موجةً من الكراهية وعمليات التفتيش الجماعية، ثم جاء 2025 ليكرّس سياسة ممنهجة تقوم على التضييق على المهاجرين، ومنهم العرب، عبر حظر عملهم في مجالات معيّنة، وابتزازهم للقتال في أوكرانيا تحت تهديد الترحيل . وزاد الوضع تعقيدًا قانونٌ جديد يشترط اجتياز اختبار لغوي للقبول في المدارس العامة، ما حرمَ آلاف أطفال المهاجرين من حقّهم في التعليم أو جعلهم رهائنَ لقرارات بيروقراطية تعسفية 

على الضفة الأخرى من الأطلسي، في البرازيل، تبدو حياة الجاليات العربية في صورة مختلفة؛ فالجذور التاريخية للهجرة السورية واللبنانية والمغاربية جعلت المهاجرين جزءًا عضويًّا من النسيج الاجتماعي، لا سيما في ساو باولو ومدن أخرى. تقارير صحفية حديثة تتوقف عند الدور الاجتماعي والخيري للمؤسسات العربية التي أسّست مستشفيات وجمعيات لرعاية الأطفال والمسنين، في استمرارٍ لتقليدٍ طويل من العمل المدني الذي يربط بين الاندماج في المجتمع البرازيلي والحفاظ على الروابط الثقافية مع المشرق العربي . ومع ذلك، لا تنجو هذه الجاليات من تأثيرات التضخم وتراجع الخدمات العامة، ما يجعل شريحة من الشباب العربي تعيد التفكير في الهجرة من جديد، نحو أوروبا أو أمريكا الشمالية.

في كندا، ما زال البلد يُقدَّم كنموذج “الهجرة الإيجابية”، لكن النقاش الداخلي يتغير هو الآخر. ففي 2025 أعلنت الحكومة عن إصلاح شامل في نظام تصاريح العمل بهدف تسهيل انتقال العمال الأجانب بين أرباب العمل وتقليص البيروقراطية، مع إعادة توازنٍ في أعداد العمال المؤقتين وبرامج الهجرة الاقتصادية . بالنسبة للمهاجرين العرب، يفتح هذا الإصلاح بابًا أوسع للانتقال من وضع العامل المقيَّد بعقد واحد إلى وضع أكثر مرونة، خصوصًا في برامج الأطلسي التي تسمح بالحصول على رخصة عمل موازية لمسار طلب الإقامة الدائمة . غير أن تشديد شروط بعض البرامج وتخفيض أهداف الاستقبال في السنوات المقبلة يثير المخاوف من تناقص الفرص أمام الطلبة والمهنيين القادمين من المنطقة العربية.

في المحصّلة، تكشف صورة المهاجرين العرب في هذه الدول عن مفارقة صارخة: فالعالم يحتاج إلى عقولهم وسواعدهم في المستشفيات، والجامعات، وورش البناء، والمطاعم، لكن السياسات العامة تتعامل معهم في كثير من الأحيان كمشكلة أمنية أو عبء اقتصادي، لا كجزء من الحل. بين تشديد القوانين في واشنطن ولندن وباريس وبرلين وموسكو، وانفتاحٍ نسبي في البرازيل وكندا، يظلّ المهاجر العربي يعيش على حافة القلق: يفاوض على حقه في البقاء، وعلى كرامته اليومية، وعلى حقّ أبنائه في مدرسةٍ لا تسألهم أولًا عن جواز السفر قبل أن تسألهم عن أحلامهم.

ثانيًا: صياغة بديلة أكثر ذاتية وتلوينًا للأسلوب

(مقال ثانٍ بالموضوع نفسه لكن بنَفَس سردي وشخصي أكثر، من دون استهداف خداع أنظمة كشف النصوص)

في صباح شتوي رمادي على ضفة الأطلسي، يمكنك أن تتخيل شابًّا عربيًّا يفتح هاتفه في غرفة صغيرة بنيويورك أو برلين أو مونتريال، ويتصفح الأخبار التي تتحدث عنه دون أن تذكر اسمه. العناوين ضخمة وباردة: تجميد طلبات الهجرة، تشديد قوانين اللجوء، نقاشات لا تنتهي حول “اندماج” لا يحدث فعليًّا. وبين هذه العناوين، تتشظى حياة ملايين العرب الموزعين بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأوروبا وروسيا وأمريكا اللاتينية وكندا.

في أمريكا، لا يعود الأمر مجرَّد صعوبات روتينية في الإدارات، بل يتحول إلى إحساس عميق بأن الأرض تميد تحت القدمين. قرارٌ جديد يوقف معالجة طلبات الهجرة من دول كاملة، ويختصر سنوات الانتظار في جملة واحدة: “طلبك موقوف إلى أجلٍ غير مسمى”. يحمل الشاب العربي بطاقة عمل مؤقتة صالحة لعام ونصف فقط، ويعرف أن تجديدها قد يصبح معركة جديدة، بينما تلاحقه أخبار عن ارتفاع غير مسبوق في الاعتداءات ضد العرب والمسلمين، وعن حملات مداهمة تستهدف الجاليات الصومالية في مدن مثل مينيابوليس. كل ذلك يجعل حلم “الحياة الأفضل” ملغومًا بتوتر يومي لا يراه من الخارج سوى أرقام في تقارير المنظمات الحقوقية 

في لندن، المدينة التي تغني لها الأغاني العربية كفضاءٍ للفرص، يتحول بحر المانش إلى خط فاصل بين الأمل والتهديد. من يصل عبر قارب صغير يخاطر بأن يُنقل لاحقًا إلى رواندا، بعيدًا عن كل ما تخيّله عن “أوروبا”. النقاشات السياسية الحادة حول هذا البرنامج تجري فوق رؤوس الناس، بينما يعيش اللاجئ العربي تفاصيل أكثر بساطة: رسالة من المحامي، موعد في محكمة الهجرة، انتظار طويل في مركز استقبال على أطراف المدينة، ونظرات متوجسة في الحافلة حين يسمع الركاب لهجته العربية أو يلمحون ملامحه السمراء 

في ألمانيا وفرنسا، تتكرر الحكاية بصيغ مختلفة. في المدن الكبرى، يمكن للمهاجر العربي أن يشعر للحظة أنه ذاب في الزحام: جامعات، متاحف، مقاهي تشبه مقاهي الرباط والجزائر وبيروت. لكن ما إن يخرج إلى قرية صغيرة أو حيّ على الهامش حتى يصطدم بلافتات الاحتجاج ضد مراكز استقبال اللاجئين، وبأحاديث انتخابية تسوِّق لفكرة أن الأجانب هم سبب أزمة السكن وارتفاع الأسعار. القانون الفرنسي الجديد يطالبه بلغته، وبـ“التزام جمهوري”، وبسنوات انتظار أطول قبل أن يحق له الإقامة المستقرة، ثم يتركه في النهاية بلا عمل بعد كل تلك الدورات والشهادات . هنا ينتقل السؤال من “كيف أهاجر؟” إلى “هل أستطيع أن أعيش مواطنًا كاملًا لا مجرد رقم في إحصاءات الهجرة؟”.

في إسبانيا وإيطاليا، لا تزال قصص البحر تطغى على ما عداها. شاب من المغرب، وآخر من تونس، وثالث من سوريا، يتقاسمون قاربًا واحدًا، ومصيرًا واحدًا تقريبًا: وصولٌ محفوف بالخطر، انتظار مرير في مراكز مكتظة، ثم تشتتٌ بين مشاريع صغيرة في الضواحي، أو عمل غير نظامي في الحقول والمطاعم. خلف الأرقام الرسمية التي تعد الوافدين والراحلين، توجد حكايات عائلات انقطعت عن أخبار أبنائها في عرض البحر، أو استقبلتهم على اليابسة لكنها لم تستطع أن تحميهم من عنف البطالة وعنصرية الشوارع 

في موسكو ومدن روسية أخرى، تبدو الأمور أكثر حدة. الجو مشحون بخطاب قومي غاضب، والأجهزة الأمنية تتحرك بثقل الحرب والشكّ. تقارير عن استهداف المهاجرين من آسيا الوسطى، وعن اشتراطات جديدة تضيّق على تعليم أطفالهم وعملهم، تجعل كل من يحمل ملامح “شرقية” يشعر بأنه تحت مجهر دائم. بالنسبة للعرب المقيمين هناك، أو العابرين لأسباب دراسية أو مهنية، يتحول الفضاء العام إلى مساحة مراقَبة، يتداخل فيها شبح الترحيل مع هاجس أن يُطلَب منه الالتحاق بجبهة الحرب تحت ضغط الحاجة أو الخوف 

في البرازيل، الصورة مختلفة ولكنها ليست وردية تمامًا. الجاليات السورية واللبنانية والمغاربية القديمة نسبيًّا في البلاد نجحت في بناء جسور عميقة مع المجتمع البرازيلي: مستشفيات تحمل أسماء عربية، جمعيات خيرية، مهرجانات ثقافية، مطاعم وشركات عائلية تنتقل من جيل إلى جيل. في هذا السياق، يشعر الكثير من العرب هناك أنهم جزء من حكاية وطن جديد، مع احتفاظهم بخيط دافئ يربطهم ببيروت ودمشق وحلب والدار البيضاء. غير أن الأوضاع الاقتصادية الهشة تذكّرهم دائمًا بأن “الاندماج” لا يعصم من الهشاشة، وأن طبقات الفقر في المدن الكبرى يمكن أن تبتلع أحلامهم كما تفعل مع سواهم من البرازيليين 

في كندا، ما زال كثير من الشباب العرب يضعونها في أعلى قائمة “البلدان المرغوبة للهجرة”، بفضل صورتها كبلد يستقبل المهاجرين ويمنحهم فرصًا تعليمية ومهنية متقدمة. لكن وراء هذه الصورة، تدور بدورها نقاشات حول أعداد الوافدين، وسوق العمل، وضغوط السكن والصحة. التعديلات الأخيرة في نظام تصاريح العمل تهدف، من جهة، إلى منح العمال الأجانب مرونة أكبر في تغيير أرباب العمل، لكنها، من جهة أخرى، تعيد توزيع أعداد المقبولين وتقلّص بعض مسارات العمالة المؤقتة. بالنسبة لمهندس مغربي أو طبيبة لبنانية أو طالب عراقي يتطلع إلى الهجرة، تصبح متابعة هذه التفاصيل الإجرائية جزءًا من مشروع حياته، لا مجرّد هامش قانوني معقّد 

إذا جمعنا هذه اللوحات، من نيويورك ولندن وباريس وبرلين وروما ومدريد وموسكو وساو باولو ومونتريال، سنجد خيطًا واحدًا يمرّ تحتها جميعًا: العرب الحالمون بهجرةٍ تحفظ الكرامة والخبز والأمان، يواجهون عالمًا يزداد انغلاقًا وخوفًا من الغريب. ومع ذلك، فإنهم يواصلون تشكيل خرائط جديدة للوجود العربي خارج الحدود: خرائط تُرسَم في الجامعات، وفي ورشات البناء، وفي المستشفيات، وفي المقاهي الصغيرة التي تقدّم القهوة العربية وسط ضجيج لغات لا تشبه لغتهم… لكنها، يومًا بعد يوم، تترك لهم مساحة صغيرة كي يحكوا قصتهم الخاصة.



0 التعليقات: