الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الاثنين، ديسمبر 22، 2025

ما هي نوايا الاتفاق العسكري الجزائري–التونسي؟ عبده حقي


أعاد الكشف عن مضامين الاتفاق العسكري بين الجزائر وتونس فتح نقاش سياسي واسع في المنطقة المغاربية، تجاوز البعد الأمني التقني إلى أسئلة السيادة، والتموضع الإقليمي، وطبيعة التهديدات الحقيقية التي يجري بناؤها في الخطاب الرسمي. فالاتفاق، الذي جرى تداوله منذ أشهر في الإعلام الجزائري دون توضيحات رسمية من الجانب التونسي، تبيّن لاحقًا أنه لا يقتصر على التنسيق الاستخباراتي أو تبادل الخبرات، بل ينصّ على إمكانية تدخل قوات جزائرية داخل الأراضي التونسية في حالات محددة. هذا البند وحده كان كافيًا لإثارة مخاوف عميقة، لأنه يمسّ جوهر الدولة الوطنية وحدود القرار السيادي.

ظاهريًا، يُقدَّم الاتفاق باعتباره استجابةً لتحديات أمنية مشتركة، في مقدمتها الإرهاب العابر للحدود، وشبكات التهريب، وحالة عدم الاستقرار المزمنة في محيط ليبيا والساحل الإفريقي. غير أن هذا التبرير، على أهميته، لا يفسر وحده الانتقال من منطق التعاون إلى منطق القابلية للتدخل العسكري المباشر. فالتحديات الأمنية ذاتها كانت قائمة منذ سنوات، ومع ذلك لم تصل العلاقات العسكرية بين البلدين إلى هذا المستوى من الحساسية. ما الذي تغيّر إذن؟ ولماذا الآن؟

القراءة السياسية تشير إلى أن الجزائر، التي تعيش منذ فترة على وقع توترات إقليمية متعددة، تسعى إلى تحصين محيطها الجغرافي عبر بناء أحزمة أمنية متقدمة، خاصة في الشرق والجنوب. إن هذا التوجّه يعكس هاجسًا استراتيجيًا قديمًا، لكنه يكتسب اليوم طابعًا أكثر هجومية تحت ضغط التحولات الدولية، وتراجع الاهتمام الغربي التقليدي بالمنطقة، وصعود منطق القوة الصلبة. في المقابل، تمرّ تونس بمرحلة دقيقة سياسيًا واقتصاديًا، تقلّصت فيها هوامش القرار المستقل، وأصبحت فيها المقاربة الأمنية خيارًا مغريًا لتعويض ضعف الشرعية الداخلية وغياب الأفق الاقتصادي.

إن هذا التلاقي بين هاجس أمني جزائري وحاجة تونسية ملحّة للاستقرار السريع أنتج اتفاقًا غير متوازن في جوهره. فبينما ترى الجزائر فيه أداة وقائية متقدمة، تنظر إليه قطاعات واسعة من الرأي العام التونسي باعتباره مساسًا غير مسبوق بمبدأ السيادة الوطنية.

تاريخيًا، بنت تونس سياستها الخارجية على الحياد النسبي وعدم الانخراط في محاور عسكرية إقليمية، في حين حاولت الجزائر ترسيخ عقيدة عدم التدخل خارج حدودها. الاتفاق الجديد يبدو وكأنه يعيد صياغة هاتين القاعدتين في لحظة إقليمية مضطربة، دون نقاش داخلي كافٍ أو توافق وطني صريح.

التداعيات المحتملة لهذا التحالف لا تتوقف عند البعد الرمزي للسيادة. فإقليميًا، قد يُفهم الاتفاق على أنه اصطفاف سياسي وأمني يكرّس الانقسام داخل الفضاء المغاربي، بدل أن يعيد إحياء منطق التكامل والتعاون الجماعي. كما أنه يضع تونس، التي لطالما لعبت دور الوسيط الهادئ، في موقع حساس قد يربك علاقاتها مع أطراف إقليمية أخرى، ويجعلها جزءًا من حسابات صراع لا تملك أدوات التحكم فيه.

أما داخليًا، فإن أخطر ما في الاتفاق هو غياب الشفافية. فالرأي العام التونسي اطّلع على مضمونه عبر تسريبات وتحليلات إعلامية، لا عبر نقاش برلماني مفتوح أو عرض رسمي مفصّل. إن هذا الغموض يغذّي الشكوك، ويحوّل أي تعاون أمني—مهما كانت دوافعه—إلى مادة للانقسام السياسي. وفي ظل هشاشة الثقة بين السلطة والمجتمع، يصبح الأمن نفسه موضوعًا للتجاذب بدل أن يكون مجالًا للإجماع.

ثمّة بعد آخر لا يقل خطورة، يتمثل في اختزال مفهوم التهديد في المقاربة العسكرية. فالإرهاب، والهجرة غير النظامية، والتهريب، ليست ظواهر أمنية صرفة، بل نتاج اختلالات اقتصادية واجتماعية وتنموية عميقة. إن التركيز على الحل العسكري وحده قد يمنح شعورًا مؤقتًا بالسيطرة، لكنه لا يعالج الجذور، بل يؤجل الانفجار ويزيد كلفته. الأسوأ من ذلك، أن توسّع تعريف “التهديد” قد يفتح الباب أمام تسييس الأمن، وتحويله إلى أداة لضبط الداخل بدل حماية الحدود.

وهنا يبرز السؤال الجوهري: من هو العدو الحقيقي الذي يُبنى هذا التحالف لمواجهته؟ هل هو خطر خارجي محدد، أم حالة عدم استقرار عامة، أم أن مفهوم “العدو” يظل مرنًا وقابلًا لإعادة التعريف وفق السياق السياسي؟ التجارب الإقليمية تُظهر أن أخطر التحالفات هي تلك التي تفتقر إلى تعريف دقيق للتهديد، لأنها تتحول تدريجيًا إلى أطر فضفاضة تُستخدم لتبرير سياسات استثنائية.

في المحصلة، لا يمكن إنكار حق الدول في حماية أمنها القومي ولا مشروعية التعاون العسكري بين الجيران. لكن الفارق كبير بين شراكة متوازنة تحترم السيادة وتخضع للرقابة الديمقراطية، وبين اتفاقات ملتبسة تُصاغ في الظل وتُبرَّر بخطاب الخوف. إن كان الهدف هو الاستقرار الدائم، فإن الطريق إليه لا يمر عبر عسكرة الجوار، بل عبر بناء ثقة سياسية، وتنمية مشتركة، ومقاربة أمنية شاملة ترى في الإنسان—لا في الجغرافيا وحدها—جوهر الأمن الحقيقي.

0 التعليقات: