الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الاثنين، ديسمبر 08، 2025

المشهد السينمائي العالمي في لحظته الأكثر توتّرًا وابتكارًا

 


تبدو خريطةُ السينما هذه الأيّام وكأنّها شاشةٌ واسعة تمتدّ من مراكش إلى جدّة، ومن قاعات أوروبا الفنيّة إلى صالات هوليوود المكتظّة بالجماهير. في كلّ زاوية من العالم تتحرّك الكاميرا في اتّجاه مختلف، لكنّها ترسم في النهاية صورةً واحدة لعالم مضطرب يبحث عن معنى، وعن جمهور، وعن نموذجٍ اقتصادي جديد يحفظ للسينما حياتها.

في المغرب، تتحوّل مراكش هذه الأيّام إلى عاصمةٍ رمزيّة للفنّ السابع مع انعقاد الدورة الثانية والعشرين للمهرجان الدولي للفيلم، من 28 نونبر إلى 6 دجنبر 2025، بمشاركة أكثر من ثمانين فيلماً من أزيد من ثلاثين بلداً، موزّعة على مسابقات رسمية، وعروض غالا، وآفاق، وقسم مخصّص لبانوراما السينما المغربية وحضور قويّ للأفلام الوطنية الجديدة. المهرجان لا يقدّم المغرب كفضاء تصوير فقط، بل يرسّخه كلاعبٍ منتج، مع خمسة عشر فيلماً مغربياً موزّعة بين المسابقات والتكريمات والعروض الخاصة، ما يعكس حيوية جيل جديد من المخرجين والمخرجات يشتغل على قضايا المجتمع، والذاكرة، والاحتجاج، والهوية المعقّدة بين الجنوب والشمال. وتزيد حوارات “المحادثات” من وهج الحدث، حيث يجتمع مخرجون عالميون من حجم بونغ جون-هو، وغييرمو دل تورو، وجودي فوستر، وجعفر بناهي، ويوسرا، في لقاءات مفتوحة مع الجمهور والمهنيين، لتأكيد أنّ مراكش لم تعد مجرّد مهرجانٍ للنجوم على السجّاد الأحمر، بل فضاء لنقاش عميق حول مستقبل السينما في عالم متحوّل.

خارج مراكش، يواصل المغرب ترسيخ حضوره عبر مهرجانات أخرى مثل المهرجان الدولي لسينما المؤلف بالرباط، الذي اختتم دورته الأخيرة في نونبر 2025 مع برنامج يركّز على السينما المؤلِّفة والاختلاف الجمالي. في المقابل، تُذكّرنا مآسي الواقع بأن العمل السينمائي ليس معزولاً عن التوتّر الاجتماعي، كما في حادث مقتل طالب السينما عبد الصمد أوبعلات في القليعة وهو يوثّق احتجاجات جيل “الزون زي” بالكاميرا، ما أثار غضباً واسعاً في الوسط السينمائي ومطالب بتحقيقٍ مستقلّ حول علاقة السلطة بحريّة التوثي. وبين هذا الألم، تخرج أعمال دوليّة قوية صُوّرت في المغرب مثل “سراط” للمخرج أوليفر لاكس، وهو فيلم إسباني يرافق أباً وابنه في بحثٍ يائس عن ابنة مفقودة في “رَيْف” صحراوي بالمغرب، ليتحوّل الطريق إلى تأمّل روحي في الهجرة والأزمة المناخية وهشاشة الإنسان؛ وقد أصبح العمل أحد أكثر أفلام 2025 حديثاً في أوروبا، ومثّل إسبانيا في سباق الأوسكار.

في العالم العربي، تتقاطع المهرجانات الكبرى مع مبادرات جديدة لتوسيع جمهور السينما. في جدّة، انطلقت في 4 دجنبر الدورة الخامسة لمهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، المستمرّة إلى 13 من الشهر نفسه، في قلب منطقة البلد التاريخية التي تحوّلت إلى منصّة تحتضن أفضل ما يقدّمه الإنتاج العربي والعالمي من أفلام روائية ووثائقية، مع أقسام مخصّصة للمواهب السعودية الصاعدة، وبرامج صناعة سينمائية تستقطب منتجين وموزّعين من كلّ القارات. يتعامل هذا المهرجان مع السينما كأداة لإعادة رسم صورة المنطقة، وتحديث بنيتها الصناعية، بحيث لا يبقى مخرج الفيلم العربي رهينة موسمٍ واحد في مهرجان أوروبي، بل يجد داخل العالم العربي نفسه شبكة دعمٍ وتوزيع متنامية.

على مستوى الدائرة العربية الأوسع، يبرز موسم جديد أُعلن عنه تحت اسم “سينماد – CineMAD”، وهو مبادرة تُطلق ابتداءً من دجنبر 2025 في عدد من العواصم والمدن العربيّة، لعرض حزمة مختارة من الأفلام العربية البارزة في قاعات متعدّدة، في محاولة لكسر عزلة المهرجانات وربط الأفلام بجماهير أوسع على مدار العام، لا في أسبوعٍ احتفالي فقط. من بين هذه الأعمال فيلم “فلسطين 36” لأن ماري جاسير، والفيلم السوداني “Cotton Queen”، وأفلام من مصر وتونس ولبنان والسعودية وغيرها، بما يمنح صورة بانورامية عن تحوّلات السرد السينمائي العربي اليوم. في السياق نفسه، تواصل السينما العربية السياسية حصد الاعتراف الدولي، كما في مشروع التونسية كوثر بن هنية “صوت هند رجّاب”، الذي يشتغل على التسجيل الصوتي الحقيقي لطفلةٍ غزّية في لحظاتها الأخيرة، ويمزج بين الوثائقي والتمثيل ليصنع عملاً يَشْهَد على العنف ولا يكتفي بتصويره؛ وقد حاز الفيلم جائزة لجنة التحكيم الكبرى في مهرجان فينيسيا، مؤكّداً قدرة السينما العربية على تحويل المأساة إلى خطابٍ بصري عالمي لا يفقد جذوره السياسية.

اقتصادياً، تشهد مصر – كأكبر سوق عربي – تعافياً ملحوظاً، إذ يُنتظر أن تغلق سنة 2025 بإيرادات شباك تذاكر تتجاوز 37 مليون دولار، أي أعلى من مستويات ما قبل الجائحة، مع هيمنة الأفلام التجارية المحلية على القوائم الأسبوعية، إلى جانب حضور قوي للأفلام الهوليودية والأنيميشن في القاعات المصرية. هذا الانتعاش لا يعني حلّ كلّ الأزمات، لكنه يشير إلى أنّ الجمهور ما زال مستعدّاً لدفع ثمن التذكرة حين يجد عرضاً يلامس حاجته للترفيه أو للمشاركة الوجدانية في قصص قريبة من حياته.

في أوروبا، يواصل المشهد السينمائي لعب دوره التاريخي كحارسٍ للسينما المؤلِّفة، وإنْ تحت ضغط المنصّات الرقمية ونماذج التوزيع الجديدة. الأخبار القادمة من مؤسّسات مثل “Europe Creative” و“Europa Cinemas” تُظهر استمرار ضخّ الدعم في قاعات العرض المستقلّة والبرامج التي تشجّع على توزيع الأفلام الأوروبية داخل الاتحاد الأوروبي وخارجه، من خلال جوائز ومبادرات مثل شهر السينما الأوروبية، والجوائز التي تحتفي بالقاعات التي تنجح في بناء جمهور حقيقي للفيلم الأوروبي.  وعلى مستوى التكريمات، تواصل الأكاديمية الأوروبية للسينما الاحتفاء بأسماء بارزة مثل الإيطالية أليس رورفاخر، التي مُنحت جائزة “الإنجاز الأوروبي في السينما العالمية” عن مجمل أعمالها التي تمزج الواقعي بالعجائبي، وتؤكّد أنّ الفيلم الأوروبي لا يزال قادراً على اقتراح لغةٍ بديلة عن اللغة الهوليوودية السائدة. في الخلفية، تتحرّك أيضاً أفلام أوروبية تتقاطع مع الجنوب المتوسّطي، من بينها “سراط” المذكور، الذي لقي نجاحاً نقدياً وجماهيرياً في فرنسا وإسبانيا، ويعيد إدماج الفضاء المغاربي في المخيال الأوروبي، لكن من زاوية الأزمة المناخية والبحث الروحي لا من زاوية الإكزوتيك السياحي التقليدي.

أمّا في أمريكا، فإنّ المشهد يبدو من جهةٍ منتعشاً في شباك التذاكر، ومن جهةٍ أخرى مرتبكاً بفعل تحوّلات السوق والاندماجات الكبرى. على مستوى العروض التجارية، سجّل الجزء الثاني من “Zootopia” افتتاحاً عالمياً قياسياً تجاوز 556 مليون دولار في أيّامه الأولى، متصدّراً شباك التذاكر الأمريكي والعالمي، في وقتٍ تشارك فيه أفلام أخرى مثل “Wicked: For Good” و“Five Nights at Freddy’s 2” في إنعاش نهاية سنة كانت صعبة على هوليوود. هذه النجاحات تذكّر بأنّ الجمهور لا يزال ينجذب إلى التجارب الجماعية في القاعة المظلمة، خصوصاً حين تجمع الأفلام بين قوّة العلامة التجارية السابقة (الجزء الأول) وجودة التنفيذ البصري والحبكة.

لكنّ تقارير الصناعة تُظهر في المقابل أنّ الاستوديوهات والمنصّات تركت ما يقدَّر بـ 1.5 مليار دولار من إيرادات شباك التذاكر المحتملة “على الطاولة” خلال 2025، بسبب الإفراط في إطلاق الأفلام مباشرة على المنصّات أو تقليص فترات العرض السينمائي، ما جعل كثيراً من الأعمال تمرّ مرور الكرام في الوعي الجماعي. وفي خلفية هذه الأرقام، يجري نقاش حادّ حول صفقات اندماج كبرى، أبرزها دخول نتفليكس في مفاوضات للاستحواذ على أصول السينما والتلفزيون التابعة لوارنر براذرز ديسكفري، إلى جانب تقارير أخرى عن صفقة أوسع بقيمة قد تصل إلى عشرات المليارات، وهو ما أثار مخاوف واسعة في أوساط النقابات وأرباب القاعات من تقلّص عدد مشتري المحتوى، وتهديد فرص الشغل، وتعميق هيمنة عددٍ محدود من اللاعبين على السوق العالمي. هكذا يصبح مستقبل السينما الأمريكية معلَّقاً بين قفزةٍ في شباك التذاكر بفضل السلاسل الكبرى، وقلقٍ هيكلي من أن يتحوّل التنويع الفني إلى ضحيةٍ جانبية لاندماجاتٍ مالية ضخمة.

إذا جمعنا هذه اللوحة، نرى أنّ “الجديد في السينما” ليس فقط أفلاماً جديدة أو مهرجانات لامعة، بل هو أيضاً أنماط مختلفة من الأسئلة. في المغرب والعالم العربي، يُطرح سؤال الحرية والذاكرة والعدالة، كما في مراكش، وغزّة، وفلسطين، وفي مبادرات مثل “سينماد” التي تبحث عن جمهورٍ عربي للأفلام العربية بدلاً من انتظار اعترافٍ خارجي. في أوروبا، يتواصل دفاعٌ عن سينما المؤلف والقاعات المستقلّة كمساحة مقاومةٍ ثقافية في وجه توحيد الذوق. وفي أمريكا، يتصارع نموذج هوليوود التقليدي مع نموذج المنصّات العملاقة، بين إغراء الاندماجات ومخاوف الخسارة الإبداعية. في كلّ هذه المسارات، تبقى السينما – رغم أزماتها – واحدة من آخر الفنون التي لا تزال قادرة على جمع الغرباء في مكانٍ واحد، في ظلمةٍ واحدة، حول صورةٍ واحدة، تفتح لكلّ واحد منهم طريقاً مختلفاً للتأويل والحلم.


0 التعليقات: