في جدل البحث عن لغة مغربية دارجة (لايت)
قلق وتردد كبيران تملكاني وأنا أقتحم متاهة هذا التدافع المحتدم الذي إختلقته منذ مايسمى بعصر ”النهضة” المزعومة ولا تزال تستمر في إختلاقه إلى اليوم بعض الفئات النخبوية التي ذهبت إلى حد بناء جدارعازل بين اللغتين الدارجة العامية والعربية الفصحى في شتى وضعيات التواصل المجتمعية والمعرفية والثقافية.
على كل مواطن مثلي مهووس في كل لحظة بالذود عن ثوابت الهوية وتجلياتها، أن يتدجج بـ (صنطيحة) ــ أقصد هامة عريضة وفولاذية ــ لدخول هذه الحرب الباردة المفتعلة حاليا حول دور الدارجة المغربية في بناء صروح المعرفة والعلوم والثقافة وتطويرالذهنيات بشكل عام وتحقيق التواصل الناجع في فضاءات التواصل الخاصة والعامة .
لابد في البداية من الإشارة إلى السياق العام الذي جاءت محطته الأخيرة بندوة وطنية حول واقع التعليم بالمغرب التي نظمتها جمعية ”زاكورة للثقافة” في الشهر الماضي والتي كانت من بين توصياتها إعتماد اللغة الدارجة كلغة للتواصل في المنظومة التعليمية، وهي التوصية (القنبلة) التي فجرت من جديد هذا السؤال الملح والمزمن إن لم نقل هذه المناوشة السرية بين معسكري ”الدورجة” ومعسكر ”الفوصحة” ــ على قياس العولمة ــ في المنظومة التعليمية، هذا إذا صرفنا نظرنا إلى حين عن المعضلة القديمة الجديدة التي ماتزال قابعة في ذهنياتنا التقنية والتي تتعلق بمشروع تعريب الإدارة الذي مايزال يظهر ويختفي في وثائقنا مثل ثعلب الكاتب المغربي، محمد زفزاف …
ومامن شك أن خطاب الملك في 20 اغسطس الماضي كان أهم محفزعلى إثارة المسألة التعليمية بشكل جريء وصريح ومنزه عن المغالطات أو المغازلات، حيث أقر بفشل مشروع البرنامج الإستعجالي وقرع من جديد أجراس الإنذار حول إختلالات العملية التعليمية ببلادنا .
ولا جرم أن الندوة التي نظمتها جمعية ”زاكورة للثقافة” والتوصية الجريئة والنارية التي خلصت إليها قد رامت بالأساس البحث عن بعض الأجوبة للإشكاليات التي طرحها الخطاب الملكي في 20 اغسطس وذلك بخضخضة المياه الراكدة من جديد في هذه المعضلة والبحث عن الحلول البديلة للرقي بالرافعة التعليمية والتربوية، ولعل أهم هذه الحلول كما جاء في التوصيات التي رفعتها جمعية ”زاكورة للثقافة” إلى القصر الملكي، هو مقترح إعتماد اللغة الدارجة كقناة تواصلية ووظيفية لتبسيط الخطاب التعليمي وتعميمه(vulgariser ) ــ ليس بالمعنى القدحي ــ بل بالمعنى الإيجابي بهدف نقل المدارك والمعارف والمهارات الأدبية والعلمية وجميع الكفايات بكل سلاسة …
ولابد للإشارة قبل كل شيء إلى بعض الأسباب في نظرنا التي أدت إلى تراجع اللغة العربية في منظومتنا التعليمية والتي يجب ألاتغيب عن أذهان جميع الشركاء إن لم نقل الفرقاء الإجتماعيين والتربويين والسياسيين والأمر يتعلق ببروز ظاهرة هامة جدا تتعلق بصعود جيل ثالث من المدرسين ــ وليس المربين ــ في مختلف أسلاك التعليم والذي شكل قطيعة مع المرجعيات الأساسية التي تشبع بها الجيل الثاني الذي تلقن بدوره عن جيل الرواد البناة في فجر الإستقلال…
إن هذا الجيل الثالث اليوم هو في غالبيته العظمى من خريجي الجامعات ومن خلطة شعب مختلفة : علمية وأدبية وفلسفية وقانونية ودراسات إسلامية وغيرها، إنه بكل تأكيد جيل لم ينخرط في سلك وظيفة التدريس في الغالب إلا من أجل الإنفلات من آفة العطالة، مما جعل من مهنة التدريس مهنة طائفة من خريجي الجامعات لم يروا آفاق مشجعة لهم في مسار التحصيل الجامعي العالي وأيضا بسبب إكراهات إجتماعية وبالتالي لم يكن ولوجهم إلى مراكز مهن التربية والتكوين من منطلق الرغبة في ممارسة المهنة عن قناعة وحب، وإنما فقط من أجل الهروب من التشرد وضياع العطالة، وهكذا صارت العملية التعليمية تدور في طواحين من هب ودب، ووسيلة لملء فراغ الجيب وتحقيق الإكتمال الإجتماعي عن طريق الراتب الشهري وبالتالي قد أفرغت هذه المهنة الجليلة من مبادئها الأساسية ومن اقتعادها على مكونات الثوابت التي تشبع بها المربون الرواد، ولعل أهم هذه الثوابت: ثابت اللغة العربية التي شكلت أهم أداة تواصلية وتلقينية وعلمية قبل أن تكون أداة دعوية ودعائية لترسيخ المنظومة الإديولوجية المتعلقة بعلوم الشريعة والفقه والدين والقضاء والبلاغة وغيرها ..
يقينا أن ما قوى من ”تطرف” القوميين والوطنيين والإسلاميين للغة العربية الفصحى وجعلها من بين أسلحة المقاومة هو تصاعد حركات المد والجزر بين حضارتي الشرق والغرب، وعمليات الكر والفر بين حضارتي الشمال والجنوب وأخيرا مشاريع الإستشراق التي هيأت للغزوات المسيحية .
ولا يخفى على أحد أنه في ظل صراع الحضارات الشرقية والغربية هاته، كانت اللغة العربية الفصحى إسترتيجيا سلاحا للتوحيد والنفوذ الفكري والديني الذي حاول السيطرة على مختلف بنيات السلوك السوسيوثقافي الفردي والجماعي عبر أغراض الشعر والسرد والخطب وحلقات التفسير والوعظ والمأثورات والرسائل السلطانية. ولعل أبرز مثال تاريخي واضح على هذا القول هو وجود آلاف المفردات العربية في القواميس الإسبانية والإيرانية والتركية والباكستانية والإفريقية (السينغال مالي – النجير..).
ولقد إستمرت هذه الأدوار الريادية للغة العربية الفصحى عبر الإنتشار الإسلامي كسلاح إسترتيجي سواء للهجوم ‘الغزوات’ أو الدفاع ‘الإحتلال’ إلى حدود أواخر القرن التاسع عشر حيث كان للإستعمار الأوروبي واحتلال فلسطين الأثر البارز في إستنهاض الشخصية القومية العربية وشحذ لسانها كما شحذت سيوفها للدفاع عن الخارطة العربية واسترجاع أراضيها المسلوبة . ولن يتسع المقام هنا لسرد المئات من المؤلفات والمصنفات التي جعلت من اللغة العربية الرهان الطليعي والأوحد للم صفوف الشعب العربي من المحيط إلى الخليج، ويكفي أن نذكرعلى سبيل المثال لا الحصر بعض أسماء الأعلام المغاربة الذين يعتبرون أيقونات لامعة لم تبخل بجهد تفكيرها في البحث في اللغة العربية عن الآليات القمينة لاسترداد الوهج التاريخي التليد على يد كل من الشيخ ماء العينين في الصحراء والمختار السوسي بحاضرة إيليغ وعلال الفاسي بعاصمة فاس وعبدالله كنون بالشمال.
لقد كان لتفاعل الحضارات المغربية ــ الأمازيغية العريقة والعربية الإسلامية الوافدة من الشرق الأوسط ــ مع حضارات الجوار الأثر البارز في ترصيص فسيفساء اللغة الدارجة المغربية التي أصبحت لغة التواصل والتخاطب اليومية، فيما ظلت اللغة العربية الفصحى مع مرور السنين متعالية ومحتفظة ”بقدسيتها” التي إستمدتها من القرآن باعتباره كلام الله عز وجل وباعتباره أيضا منزها عن دونية المعيش اليومي .
إن هذه الإزدواجية في اللسان المغربي هي ما شكل في نظرنا من اللغة كأداة تواصل وجهان لعملة واحدة، أو ما يمكن أن نصطلح عليه ‘لغة الداخل’ باعتبارها فضاء فكريا ومعرفيا ورمزيا و’لغة الخارج’ باعتبارها فضاء إجتماعيا مفتوحا على مختلف أنماط السلوك الفردي والإجتماعي وأيضا على مستويات التواصل والتخاطب السوسيوثقافي، مما أدى إلى إنحسار ‘لغة الداخل’ وابتعادها شيئا فشيئا مع تعاقب الحضارات عن فضائها الخارجي الذي تطورت فيه وتشكلت فيه بنياتها الجمالية والبلاغية والشعرية، وهكذا تطورت ”لغة الخارج” على حساب ”لغة الداخل” برمزيتها الدينية والتراثية …
ومما لاشك فيه أن هذا المد والجزر بين لغتي الداخل والخارج قد مكن من مد جسر للتعايش بينهما مما خلق لغة ثالثة، إنها لغة لا تطمح إلى القداسة الماضوية كما أنها من جانب آخر تأبى النزول إلى درك العامية الهجينة والسوقية .
لا يمكن لأي كان أن يتحدث عن واقع التدريس بوطننا بشكل عميق ومجرد من كل خلفية إيديولوجية خارج الممارسة الحيوية داخل الجدران الأربعة وفي مختلف أسلاك التدريس من الأقسام الأولى الإبتدائية حتى تعليمنا الجامعي العالي.
إن ما يشغل المدرس المغربي اليوم وهو في طاحونة العملية التعليمية ليس طبيعة لغة التواصل والتلقين وإنما كتلة وحصيلة المهارات والكفايات التي حققها في جميع الوضعيات المقترحة والتي تتجلى في الإجابة الموفقة على التعليمات المطروحة . فما الذي تهدف إليه مثلا وضعية ما من وضعيات مادة علمية، هل إكتساب رصيد لغوي دارج أو فصيح أم تعلم كفاية علمية وتقنية سيكون لها من دون شك إمتدادها الإيجابي على مستوى الشغل أو التفاعل في الحياة اليومية في المستقبل …؟ هل نحن اليوم في أمس الحاجة إلى أن يتعلم الطالب نظام العلاقات الميكانيكية الآلية في محرك المركبة أم إلى بلاغة اللغة التي تلقن بها مادة الميكانيكا أو الكهرباء أو الكيمياء وغيرها من العلوم الحقة ؟ ثم من جهة أخرى ما الجدوى من فرقعة هذه ”القنبلة الموقوتة” اليوم وفي هذه اللحظة التاريخية الهامة بالذات إذا كانت جل هذه المواد العلمية ماتزال تدرس باللغة الفرنسية في مختلف أسلاك التدريس ؟
إن النهوض برافعة التعليم ببلادنا لن يتأتى سوى بالتفكيرالجدي والمسؤول في خلق آليات التفكير العقلاني والتحلل من نظرية المؤامرة بهدف المرور السلس إلى السرعة القصوى لربح الرهانات المتعلقة بالتعليم في مطلع الألفية الثالثة وذلك بتخليص سفينة التدريس ببلادنا من الحمولة الزائدة من الأفكار المبيتة التي تتعنكب في ذهنياتنا الماضوية منذ نصف قرن على إستقلاننا بل منذ قرون خلت .
إن التعليم اليوم بات في أمس الحاجة إلى إعادة النظر في سياسات تكوين المدرسات والمدرسين في جميع الأسلاك وفق شروط التطور الجنوني الراهن لتكنولوجيا المعلومات والإتصال التي فرضت لغتها الخاصة وطورت ملكات التفاعل بين أفراد المجتمعات الإفتراضية المتقدمة إلى درجة باتت اللغة أحيانا أداة مكملة في عملية التلقي وليست أداة رئيسية …
فالمتعلم اليوم لم يعد في حاجة إلى أي وسيط لغوي ”دارجي” أو”فصيح” على نفس القدر من الأهمية قبل عقدين ونصف من الزمن أي قبل إنتشار الإنترنت والديجيتال، بل إن الحرب الشرسة وسباق الدول الجنوني لاختراق أسرار الكون والإنسان والتقنية يحتمان عليه أن يتدجج بشجاعة المبادرة وروح الإبداع من أجل إمتلاك مهارات حديثة وكفاءات متطورة تمكنه من تفكيك شفرات الرسائل المعلوماتية وتمكنه أيضا من قراءة علمية وعالمة بخطورة الشبكة الرقمية وما تصنعه من خطاب عولماتي يستحوذ اليوم على تفكيرنا عبر الإنترنت ومواقع التواصل الإجتماعي وعبر أخطبوط الإعلام العربي الذي ينفخ كل يوم في نار التشرذم والإنفصالات وانفصام الشخصية الوطنية الأمازيغية العربية .
ماهو مستقبل اللغة العربية إذن في ظل هذه التحولات في جماليات التلقي وانفجار الرقمية ؟ أليس باستطاعة أي شاعر اليوم أن يصدرديوانه على سند فيديو وينشره على اليوتوب مسجلا بصوته الشخصي وبتلاوته المتناغمة مع جوانيته والممزوجة بأروع بهارات الإخراج الفني الرقمي والسمعي البصري ولربما بشكل أجمل من قراءة جافة وجامدة وسطحية على عشرات الصفحات من الديوان الورقي؟
إن هذا الشريط بإمكانه تحقيق متعة تواصل وتفاعل عالية مع كل شرائح المتلقين حتى الأميين منهم من لا يعرفون القراءة والكتابة لكنهم في المقابل يحسنون الإصغاء والمشاهدة وعموما الإنسجام مع المادة الشعرية الفنية …
إنه ضمن هذا الإنقلاب الراهن في جماليات التلقي الرقمي يمكن مقارنة واقع اللغة العربية الفصحى ومستقبلها المرتهن بتكنولوجيا الإتصال والمعلومات، وأيضا يمكن مقاربة اللغة الدارجة وضرورتها الحاسمة في بعض الوضعيات التعلمية الخاصة على غرار المواد العلمية كالرياضيات والفيزياء والكيمياء والإجتماعيات والقانون .. إلخ. أما المواد الأدبية فإن طبيعتها تفرض على المدرس حتما التواصل مع المتلقين باللغة العربية الفصحى خصوصا على مستوى الدراسات النقدية وتحليل النصوص السردية وكذا مناقشة الأطروحات والبحوث الجامعية …
أخيرا إن تفجير قضية اللغة في المنظومة التعليمية في الوقت الراهن بمبادرة من جمعية ”زاكورة للثقافة” قد عرى بما لا يدع مجالا للشك أننا مازلنا بعد مرور قرن بالتمام والكمال على صدمة الإستعمار نجتر ونكرر نفس الأسئلة الجوهرية ونتراشق بنفس تهم المؤامرة في القضايا الوطنية الهوياتية التي طرحها جيل ما سمى بـ”عصرالنهضة” العربية والمتعلقة ببنية الثابت والمتحول في قيم هويتنا ومدى قدرتنا كنخب ومفكرين ومنظرين على تطويعها من أجل ملاءمتها مع مسالك الحداثة وطرائق التحديث … ومن دون شك أنه لا يمكن تحقيق هذا الهدف الأسمى إلا بقرار واحد هو أن تمتلك جميع النخب وأطياف المجتمع المدني الشجاعة الفكرية للخروج من معضلة ”نحن نريد لكننا نخشى ما نريد !!”
قاص وروائي ــ مديرموقع إتحاد كتاب الإنترنت المغاربة
0 التعليقات:
إرسال تعليق