الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، أغسطس 15، 2015

خلوة رفيعة

خلوة رفيعة
من خلل السقف القصبي الواهن .. أصخت الى سعاله القديم ، يتسرب الى آذان المساء ، شبيها بخوار أيل جريح.
قلت في نفسي وأنا أقلب أوراق كتاب مغبر: كيف يجرؤ على هذا الانبعاث الفينقي وبهذا الصوت
المكلوم .. مع أنه لم يحدث فيما أذكر أن نبس في وجهي يوما ما ؟
لقد كان كعهدي به بين الهضاب القفر والنجود الجرذاء الا من أحراش الشيح ، صموتا منتصبا كأي سارية عتيقة تساوعها الرياح المتوحشة في عزلة خلاء مطلق ويكمن في هيكلها هدير التاريخ ...
والآن .. أتنصت الى كعب حذائه ، يطرق بحدة على سطيحة السقف الواهن .. في هذا البيت المعزول .. تحت أقدام الجبل الشاهق .
أتسمع للازمته تدوي بايقاعها القتضب.. فاعلاتن .. فاعلاتن.. فاعلاتن...
أتراه قد نهض في هذا الهزيع ليتابع سرد حكايته المحفوفة بالغرابة وخوارق الأزمنة القديمة...
أجدني مرتبقا أكثر من ذي قبل الى أشيائه.. ظله .. زفراته .. ايماءاته المغمورة بهذيان الحكماء الذي يخيل الى جليسه كما لو أنه منعتق من شفتين تحللتا فجأة من أنشوطة عنيدة.
أبعد كل هذه السنين يردم حيطان هذا التكتم الملغز ويفتح لي صندوقه القديم المرصع بالماس والمصوغات الفضية ..
كنت ألفي طيفه يندس في كل التشكلات المرئية ، العابرة منها أوالرابضة مثل شجرالعرعارهناك وهناك . شفتاه الرفيعتان ، عيناه الجمريتان اللتان كحلهما الإمعان الطويل في لذغات العمر .. يده الكبيرة .. اليد الكبيرة المتشققة.. التي تبدو ساعة تعرقها رافلة في لألأة المعجزات...
يجمل بك الآن أن تفصح عن انتفاضك في أغوارالنفس ، ويجمل أيضا بطيفك أن يسمعني ملاحمه القديمة ؛ فقد يكون للطيف ذاك البوح الأبلغ من هتاف الجسد...
أذكر.. كان يمرق مثل النيازك ، مقداما كما عهدته ، من عقال الجبل الشاهق .. حارس التضاريس المعزولة ،المتمنطقة بالأسبلة السريالية ، يعارك الشواهق العنيدة .. أعزل .. عليه دائما جوخه الصوفي الذي تفوح منه رائحة عرق المعارج المتربة ، وحذاؤه المخروم قد خبرالشعاب والفجاج حصاة حصاة حتى خمنا أن للحذاء عقيدة لا يدرك حكمتها سوى الجوالين الساهمين على حد الغواية.
وعلى شفيرالحافات كان يحتبي .. واحتباؤه استراحة محارب أو مجذوب ضليل ..كيما يستغورعوالمه الباطنية أو يتلهى بذرالرماد على قروحه بالساق.
إنه ما يزال يتشمم رائحة الحرائق في غابة العرعار ويتسمع بمضاضة لشخيرالمناشير خلفه وهي توقع سمفونية الذبح على كمنجات الجذوع.
على عتبة البوابة العريضة ذات الصخورالصقيلة التى دحرجتها الهزات في عصورالتكوين .. كان يقف ليتملى المجاري المتفرعة وحوافرأعقاب العكازات وسنابك الخيول؛ ثم يخترق عين السورالعالي ، ومع ذلك لا أحد منا كان يعلم بمروقه المخفورالذي يشبه إسراء نسيم حثيث ، يدمدم بلغو مبهم قلما يشوبه كلام معلوم . كان يمرق وكنت أرقبه من بعيد ؛ يسكنني وهو شارد في تلك المسالك المفضية إلى قمة الجبل السامق حيث يتثائب المدشرعلى الحيزوم مثل لوحة من لوحات الرسام دولاكروا...
ولم أكن أعلم أنه كان يوزع أيامه تحت بحيرة أسطورية تستلقي على كتف الجبل العالي ؛ ولا مراء أنه كان أدرى بانوجاده هناك لأن العطش الذي كان يذكي جحيمه الجواني جعله مثل طائرالبجع يهتدي إلى الترعات المائية بالغريزة.
لم يكن يعبأ بغضب الإنجرافات التي طمست غيرما مرة أحواض الشعير والذرة وعرصات اللوز والأراكة .
 ولما كان الرعد يقصف ، كانو يأوون الى الأدراج الجبلية أو يتسربون كالنمل إلى المكامن الدفينة حتى لاتدهسهم عربات الجلاميد النافرة ، أما هو فقد كان يصعد مثل نبي ، يعب شرابه .. كأسه التي تبترد بها غلته..بانتشاء وازدراء بما يمكن أن يحدث ومتى شاء أن يحدث .. غير أن لاشيء من هذا حدث مذ وطئ هذا المدشر في نزوحه الغامض متدحرجا كحصاة لقيطة دون أن يستديرولو مرة واحدة إلى الوراء...
ولم يكن عبور غريب هناك أمرا مألوفا على تخوم السفح الممتد إلى أقدام المدينة ... حينما نزل هو بهذا المدشر مثل عابرسبيل في بداية الأمرأمسى وليمة لنميمة سرعان ماتناثرت كالنباتات المتوحشة ..
و أمسى أيضا ملهاة لطي المسافات على صهوات الغدو والرواح ؛ ربما لأنه كانت تبدوعليه سيماء خبل المجاذيب الملتحفين في أردية الصوف .. الذين كانو في عصرالانهيارات يضربون في أرض الله .. هائمون في مفاوزالشرود.. حفاة ..يبحثون عن قبس الكرامات وآلام المجاهدات ...
ربما شبه لهم ولذا كانوا على الأقل يطعمونه تينا وشعيرا على نوراللمبات أوالقناديل الزيتية ، متلمسين في تجاعيد محياه أسرارطالعهم ...
كان يرتق الرحيل برحيل آخر، لعل الهامة تسطع بشمس الاشراق وتلتئم أشلاء الجسد الذي نهشته رياح الشهوات .ولاشك أن سهومه في أقصى ملاذات الخلوة كان إعلانا بذات الشكل عن حكاك ما ضدا على اندحارالنفس وتحطيم مرآة الروح بمعاول اللذة ... لذا كان المفرحيث لا أحد ولا جحيم ، ضربا من ضروب الاحتجاج الروحي بتشريد الجسد الآبق .
 ترى ماذا خسرهناك ، خلف هذه الأطواد وبأية غواية أبحرإلى أرخبيل هذه العزلة القاسية؟؟
متى ما فكرفي أمره ، كان يحتد هذيانه فيلتف على نفسه بنفس الكلام ورجع الصدى .. يعب شرابه المقدس ويهمل السؤال.
أذكر كان مساءا باردا ،قارسا وقاسيا جدا ،وكان نداؤه البعيد يستدرجني كالمتسرنم إلى مأواه الرهيب ، هناك على حيزوم الجبل العالي... جعلت فجأة أنمق الكلام وأرجع لازمة بعناية الاطفال فبدا لي مقتعدا في ظله صخرة صقيلة ؛ حين رفعت عيني رأيت سحابة قيد التشكل على هيأة حصان خرافي يحوم في زهو رائق بين قطعان الغيم النحاسي ؛ مرة أخرى وكما هي عادته لم يعبء بقدومي ، مثل صخرته كان ، لا تعبأ هي أيضا بإزميل الوقت ولابتمسح أيادي السقاءات المتختمات بالأساورالوازنة .
دلفت كأني ألج معبدا قديما .. فجأة رمقت وجهه  .. نفس الأسارير والقسمات التي رسمتها في مخيالي ألسنة الأهالي...
داهمني وقتئذ انتشاء عارم في انفراج محياه ولمست فيه بعض هناءة ، فصرت أتردد بين افتتاح الكلام وبين التملي المنبهرفي وجهه المجلل بالإناس وفك طلاسمه التي أمست لغتها تضج في أعماقي ..
كنت أفكروأنا منتصب أمامه في عزلته الرفيعة ، أسترق النظرة من خلفه الى مأواه المعتم .. مغارة على مقاس منفذ الجسد بالكاد ؛ كأنما نحتتها أصابعه التي تشبه ثمرات البلوط . ومن دون أن ينبس ناولني قدحا من شرابه المقدس .. هوخليط لبعض البهارات والأعشاب البرية . فعجبت لصنيعه الغريب حين شعرت بدم فائريضخ في أعماقي ثم بتلاطم الكلام في زفراته وارتجاج صدره . كنت أنقل ناظري بين وجهه الملفوح وبين جوف المغارة .. فجأة لمحت تلألؤا يمورفي مصوغات الصندوق القديم خلفه هنالك في عمق مغارته ..تلأ لؤا كان يزداد التماعا كلما أمعنت النظر فيه ، فساورتني رغبة في الدنومنه ؛ ثم رنوت إليه فيما يشبه الاستئذان فوجدته منشغلا في عد أيامه على أصابعه التي تشبه ثمرات البلوط .. وفي لحظة سهو مني توارى خلف صخرته وكأني بوقع قدميه تجلجلان في جوفها قلت : أتسمعني أيها الشيخ ، ما الفرق بين جوزة السروتفاحة المعرفة ؟ فكلانا على سبيل الإدراك تائه ...

اثرئذ شممت رائحة دخان تلاها قرع طبول ودفوف في الدغل .. لمحته يظهرويختفي بين أيك العرعار ، حاملا صندوقه على كتفيه العريضين الضامرين ويركض .. يركض .. وكان جسده يكبر .. يكبر .. ويشتبك بالأشجار ، وبدا لي أخيرا أنه صارشجرة...

0 التعليقات: