ليس هناك أروع وأجمل من أن يهديك شاعر قطعة من حلمه الأثيل، ويتضايف في جسدها الزمن والروح والسهاد والحبر...
وما أقسي حين نفتش في متاعنا فلا نعثر على ما نقايض به هذا الإهداء الجميل غير اللغة بديلة وثمينة..
حين دعاني صديقي الشاعر عبد السلام المساوي إلى هذه اللمة الحميمية تحت "سقوف المجاز" أحسست أن الزمن كان على موعد مع تقويم تاريخي جديد يذعن فيه بندوله لأساجيع المجازات وبيارق الرموز وشبابات الألفاظ ويخلع عنه سترة اليوم الفادح برتابته..
للأولوان أيضا مجازاتها، ولكيميائها دلالات، ولمجاورة حدودها معان تمنحنا عبر قراءتها البصرية فاتحة مختزلة وعميقة وإشارية لولوج متن الديوان. فهو متدثر بطيلسان الطين ذي اللون الكستنائي الذي يجعل من فعل القراءة فعلا القراءة فعلا للسفر على أديم البداية، وبالتالي إيقاظ تذكار أزلي لعلاقة الكائن بالأرض، واللوحة التي صممها الفنان يوسف الغرباوي تتعانق هي أيضا مع هذا البعد المكاني بما يتواشج في فضائها من مكونات بصرية لإقامة رمزية تلتئم فيها مربعات الجدار بالسطيحة ودعامة السقف المنفرجة والمفتوحة إلى الأفق ربما على أسئلة معلقة.. ومن مجازات الألوان إلى مجازات الكلمات يأتي ديوان "سقوف المجاز" منبثقا من خصب آذار. مغسولا بصبيبه ومسكونا بأنفاس القرنفل الصاعدة من مكامن الذاكرة الطفولية.
يأتي بالحصو الأبهى المنقوع في حبر القصيد الصادق ليبلسم أقدامنا من تورمات الإنتظارات على أبواب الأكشاك والمكتبات.. يشكل الصحو علامة مائزة ودالة في متن الديوان، ليتفاوت تمظهرها بين بنية دلالية كبرى مهيمنة كما هو الشأن في قصيدة "مدارج الصحو" وبين اندغامها في نسق تركيبي في وحدة بعض الأسطر.
والصحو هنا أو هناك يتدثر بتلاوين وأبعاد وجودية وميتافيزيقية لنصرف بالتالي على تجربة الكينونة الجماعية، ويطالعنا بداية مذ أول قصيدة تشكلت تحت "سقوف المجاز" ليتماهى كمعادل موضوعي اللادراك الحسي.. إدراك الذات بوعي انوجادها وبالتالي تحقيقها إثر هذا الوعي لـ "ميثامورفوز" جميل يهاجر بها من قوقعة الصمت إلى حالة فاعلة ومنفعلة مع المؤثثات الخارجية.
كان في المدى طائر ينأى والسماء يكنسها الصحو كما يصطبغ الصحو بدلالة الاستفاقة والانفلات من العدمية التي ما يشبه فوضى الولادة بما تحققه من دهشة أولية لحظة اصطدام الرؤية بواجهة العالم دون أن تسقط في شراك ميكانيزماته، بل لتعيد ترتيب حركيتها كما تشتهيه العين الشاعرة.
مر من العمر شبر فأفقت
ورأيت الأشجار تمشي
والفصول تزحف في فوضى
وفي دهشة العين
رأيت شهورا أمام الشباك
تنتظر رأتبها الشهري
تنخرط الذات هنا في وضع الانعكاس، لأنها في تمثلها لهذه الصورة القيامية، الأسطورية، تسترجع واقعة الولادة ولا تستغني عن أسقاطاتها النفسية على المعطيات الطبيعية بما هي وقائع لصورة غرائبية تفجر رجة الصحو التي تعالقت بها الذات المنكتبة بالعالم للصحو وصورة أخرى تلتبس بسؤال الموت حين يصير الغياب هو التراجيديا الحقيقية التي ترغمنا بسلطتها الميتافيزيقية على اقتسام طعم الفقدان، إذ ينهض فعل الغياب كعلامة بارزة في عنوان "يرشني بالغياب، بإنتاج دلالية الانفصال لتصبح تسمية موارية للموت والاستسلام الطبيعي لانهيار الروح في جوف جسدها الذي لازمها مدى العمر وعلى حين غرة "رشته بالغياب".
ها وجه المجلل بالحكايات
يلغي المواعيد الجميلة
يفرغ الدورق من خمرها
وفظيعا يتسلل من تحت الأبواب
أراه في الحلم، فيسبقني إلي الصحو
كي يفاوضني على الأشياء الصغيرة
ويغريني بالاستسلام
وكالصديق إذ يرحل
يجمع حقائبه.
وملامح حبيبته
ثم يرشني بالغياب.
في هذا المقطع الذي يفتتح بهاء التنبيه، ينفتح معه جرح الألم على صورة شعرية تمتح من لحظة الدراما الركحيه، فحرف التنبيه (ها) المجتزءة من الكلمة المركبة (هذا) تكشف عن مقصدية شعرية يضعنا الشاعر بواسطتها في راهنية لحظة مأساوية لغياب وجه قد يكون وجه كائن بالقرابة أو وجه كائن بالصداقة..
إن الإحساس بالفقدان في هذا الأوج التعبيري يهم الشاعر وحده كما يهم التجربة الإنسانية عامة في منحى آخر حيث الأفعال والحركات كلها تعود على الذات المنكتبة والمفترضة.. كما تتجسد تيمة الموت المنصهر في لحظة الصحو بوعيها المكتمل في مقابل الحياة التي تنسجها خدعة الحلم بمكر واضح يجعل من دفء المجاورة بين الروح والجسد في الآنا أو الذات الغائبة وهما وبالتالي أحباطا مريرا..
ثمة إذن لعبة ماكرة وحرب متخفية تحت رماد الظاهر. خصماها الحلم والصحو. الحلم بما هو ملاذ تعويضي يهفو إلى استعادة الوجه الغائب، والصحو كعالم فيزيقي يحمل دعوة أو بالأحرى إغراء خاسرا وتفاوضا على الاستسلام، وهذا المعنى ذاته الذي يتعلق فيه الحلم والصحو يتكثف أيضا في نص (قبر أبي العلاء) المشذر في معمار قصيدة (جعل تافه) حيث يتغيا الشاعر أن يخضخض في أذهاننا بضربة ربح الصحو الأسئلة الوجودية التي عانقها أبو العلاء في لزومياته وأيضا في سقط الزند يقول شاعر المعرة.
رب لحد قد صار لحدا مرارا
ضاحكا من تزاحم الاضداد
تعب كلها الحياة فما أعجب
إلا من راغب في ازدياد
إذا كان هذان البيتان يختزلان مواقف المعرى من السؤال الازلي للموت، فإن الشاعر المساوي يضعنا أمام وفي صورة شعرية تتزاحم فيها الاضداد وتنتؤ فيها عبثية الوجود متمظهرة في تجاور قبرين: قبر أبي العلاء وقبر رضيع، قبر يحرس رميم أسئلة ميتافيزيقية وقبر لم ينشد أغنيته بعد:
قرب قبرك يا أبا العلاء
قبر بحجم وسادة
لرضيع لم يدفن رأسه
في حليب الصدر
لم يعش غير دقيقة
دمه أخضر يا شخنا، كفجر السنابل
صمته، يا شخنا: أغنية عطاها التراب
هو ذا عالمك يا أبا العلاء
فهل تطلب المزيد؟
إن هذا المجتزأ النصي ينهض في مجال تخييلي يمكن توصيفه بمجال المابين الزمني، فالاستراتيجية التناصية التي مسكت التي بالبنية الزمنية تتوزع بين المعطى التراثي وبين المعطى الوقائعي وتذهب إلي أقصى حد في تملك الزمان الشعري في الذاكرة العربية وبين تملك الزمان الشعري المعاكس والهارب أمام في فضاء قبر الرضيع.
ويختم المساوي نص (قبر أبي العلاء) بسؤال استنكاري يضمر إجابته بالنفي من خلال تناص غائب نستحضر على التوفي عجز البيت الثاني في أحد قصائد المعري. يقول المساوي: فهل تطلب المزيد؟
فتأتي الإجابة على لسان المعري:
تعب كلها الحياة فما أعجــ ب إلا من راغب في ازدياد.
وبين سؤال المساوي وجواب المعري يمتد خيط الوجودي الثاوي في جمر التجربتين معا.
في قصائد أخرى تقترن دلالة الصحو بالتمرد ويتأكد هذا من خلال عناوين (مدارج الصحو-قيامة صغيرة – سأهدم كل سقيفة لا تبايعك) لينسحب إلى النزوة العارية في رفض الرضوخ إلى ثوابت كل سقيفة شعرية تجتر أقانيمها وتعاكس غواية الصحو الجمالي البديل حد الجنون. إنها موضوعة الكتابة على الكتابة وبيان شعري متمرد في رهافة وململم بين تلافيفه الأسئلة القلقة حول قصيدة النثر.. هذا الطائر الطليق الذي خبر مطافات الشعراء الشباب وارتاد التضاريس المدببة في جغرافية الاحتمالات النصية التي راهنت وتراهن عليها التجربة الإبداعية في حقل قصيدة النثر. ولا غرابة في أن تتألق في سقف الديوان ثريا قصيدة (سأهدم كل سقيفة لا تبايعك) فللشاعر المساوي طليعيته الاعتبارية والرمزية المتألقة إلى جانب ثلة من الشعراء الثمانينيين منذ أول بيان صادح في ملتقى سلا 88 عبورا بمدن الشاون وأصيلا إضافة إلى بيانات آخر جماعية بصيغة مفرد علي شكل مقالات صدرت بالملاحق الثقافية كان آخر مثال بعنوان "ورثة القمقم" صدر بالملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي في شهر مارس.
هل نقول بعد كل هذا أن مسار تجربة الثمانينيين أنها تجربة الصحو الجيلي بامتياز مختزلة في اضمامه "سقوف المجاز" بما هي باقة منثورة في فضاء الحاضر الشعري ورافضة لتعليبية الأصص التفعيلية وهندساتها الجاهزة.
على وجهها
يسافر العشاق إلى معشوقاتهم
ويأتلف المعني بلا لغة
يكفى أن تسدلي الأهداب
على قواميس الصمت
لتنهمر الأبجدية بلا نهاية
إن العلاقة بين الشاعر وقصيدة النثر تعلو إلى المراقي الشبقية والعشق الخلاق المنسوج بحرير الحياكة الرؤيوية المغايرة والحلم المستشرف حيث تأتي الرغبات خانعة بين قدمي قصيدة النثر المفتونة بملاحقة ما لا يلاحق ورافضة للصحو الحسي الممتشق بأذاة المحو للبساتين المنداحة على الأديم النثري. كما تتبدى في المقطع الآتي علاقة الحلول بين قصيدة النثر والأنثى وبينهما ينعقد وثائق التعاقد عبر استعارات ومجازات يتحول بكيميائها السحري وجه القصيدة إلى وجه امرأة بأهداب وثم فاجر وصمت فاتن (يعتمر جهات البهاء) ويبلغ هذا الحلول نشوته وانتشاءه حين يقول:
صاغر، أبا يعك الآن
وأهدم كل سقيفة
تختار امرأة سواك
سأعيش عنك
إن هذا التماهي الأقصى في بلاغته والأقسى في عشقه الممتدبين الانتشاء الحلولي والافتتان المستديم بقصيدة النثر وما يمنحه جسدها الهلامي من عقوق جميل وحقوق إيقاعية ليأكد بلا مراء أن المساوي قد بصم بهذا النص/البيان على ميثاق جمالي يروم تكريس مسار الصحو في الإبداع الشعري للثمانينيين المسكونين بشياطين الاختلاف والمغايرة.
سأشرب من تيهي
كل الأقداح التي ضيعتها
في أغوار الضجر
ثم أعبر نهر الريح
إلى مدارج الصحو
هناك: افتح صدري
وأريكم ما أختبأ في دمي
من حروف.
إن وسم هذه القصيدة بـ "مدارج الصحو" لدلالة ضافية تتجه نحو الارتهان التلقائي إلى بؤرة الصحو وإمكان مؤاصرتها بتيه الرحيل النثري باتجاه أفضية شعرية لم يطرقها بشر.
الصدر هو مأوى الانفعالات والصندوق الأسود الذي تنكمن فيه الأسرار والرغبات، وحين يشرع شاعر صدره فلأن قصيدة ما قد استوت وأن لها أن تعلن عن صحوها وما اختبأ في دمها من حروق جديدة.
هكذا ينشغل المساوي بكيمياء النص المنفرد لتشكيل مجازاته وإمكاناتها التخيلية بما تتيحه متعة القراءة في فيء "سقوف المجاز" من صحو متميز يجعل العلاقة بين الذات والعالم قابلة للتواشج تارة وتارة للاختلاف..
· سقوف المجاز "عبد السلام المساوي دار النشر المغربية (الدار البيضاء) الطبعة الأولى 1999.
0 التعليقات:
إرسال تعليق