الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، مايو 15، 2025

دلالات إقصاء الجزائر من احتفالات النصر الروسية : عبده حقي


في التاسع من مايو 2025، شهدت روسيا واحدة من أضخم احتفالاتها الرمزية والوطنية: الذكرى الثمانين ليوم النصر على النازية. إن هذا التاريخ الذي تحمله الذاكرة الجماعية الروسية كمرآة للتضحيات الكبرى والانتصارات المصيرية، تحوّل إلى عرض عسكري استعراضي ومهرجان جيوسياسي يبرز التحالفات، ويكشف ما تحت الطاولة من اصطفاف جديد وتحولات حادة في السياسة الدولية.

وقد كان مفاجئًا ومربكًا في آن، غياب الجزائر عن هذه المناسبة الاستثنائية، رغم ما يُروّج له رسميًا من علاقة "استراتيجية" و"شراكة عميقة" بين موسكو والجزائر. ففي حين شاركت مصر – الحليف التقليدي للولايات المتحدة – بوفد عسكري في قلب الساحة الحمراء، ولبّت دول إفريقية مثل إثيوبيا، بوركينا فاسو، الكونغو برازافيل، وغينيا بيساو الدعوة الروسية، بقي المقعد الجزائري فارغًا. لا رئيس، لا وزير، ولا حتى مندوب حكومي رفيع المستوى، وكأن الجزائر أُسقِطت عمدًا من القائمة الروسية لهذا الاستدعاء الرمزي الذي لم يكن حدثًا عسكريًا فحسب، بل رسالة سياسية بصياغة دقيقة.

إن هذا الإقصاء ليس مجرد صدفة دبلوماسية أو زلة بروتوكولية. إنه نتاج تراكمات من الغموض في المواقف الجزائرية، وازدواجية الخطاب الخارجي، ومحاولات مستمرة للجمع بين تحالفات متناقضة. فبينما تسعى الجزائر للتقارب مع موسكو في العلن، تظل سياساتها الاقتصادية والأمنية تدور في فلك باريس وواشنطن، ما جعلها، في أعين كثيرين، دولة "مترددة" لا يُعوّل عليها في اللحظات المفصلية.

وما يزيد الصورة تعقيدًا، أن روسيا لم تكتفِ بتجاهل الجزائر، بل اختارت عن قصد أن تُكرم خصومها الإقليميين. فقد حضر الاحتفال اللواء خليفة حفتر، الخصم اللدود للسلطة الليبية التي تساندها الجزائر، والذي استُقبل استقبال الرؤساء في موسكو قبل أيام من العرض، والتقى مسؤولين عسكريين بارزين، في إطار تنسيق استراتيجي واضح المعالم. كما كانت دول "تحالف الساحل" الحاضرة بقوة، وهي نفس الكتلة التي دخلت في أزمة دبلوماسية مفتوحة مع الجزائر منذ سحب سفرائها من العاصمة في أبريل الماضي.

هذه الإشارات المتعددة لا تترك مجالًا للشك: الجزائر لم تعد في قائمة الحلفاء المحوريين للكرملين. لقد تراجعت مكانتها لصالح لاعبين جدد، أكثر وضوحًا، وأقل ازدواجية. فرغم صفقات التسليح الضخمة التي أبرمتها الجزائر مع روسيا، ومنها شراء مقاتلات من الجيل الخامس بأكثر من مليار دولار مطلع هذا العام، لم تُكسبها هذه الصفقات صفة الشريك الاستراتيجي، بل أبقتها في خانة "الزبون العسكري"، لا أكثر.

أما مصر، التي تُعتبر تاريخيًا حليفًا للولايات المتحدة وتحصل سنويًا على دعم عسكري يفوق مليار دولار من واشنطن، فقد اصطف جنودها في قلب موسكو إلى جانب القوات الروسية. وذات الأمر ينطبق على الدول الإفريقية التي لا يجمعها مع روسيا سوى الرغبة في التخلص من النفوذ الفرنسي أو الأميركي، لكنها لم تتردد في الحضور لتأكيد مواقعها في التوازنات الجيوسياسية الجديدة.

الرمزية كانت أقوى من أي تصريح أو بيان. عشرات الزعماء، بينهم قادة الصين والبرازيل وفنزويلا وكوبا، جاؤوا ليؤكدوا دعمهم لموسكو. أما الجزائر، فقد غابت، بل تم تهميشها، في لحظة يُفترض أنها كانت فرصتها الذهبية لإعادة تثبيت حضورها على خارطة النفوذ العالمي.

هل هو خطأ دبلوماسي؟ أم عقوبة سياسية؟ في الحالتين، فإن ما حدث يُبرز تدهورًا خطيرًا في موقع الجزائر الإقليمي والدولي. فخلال عهد الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، نجحت الجزائر في فرض نفسها لاعبًا متزنًا، حظي باحترام الخصوم قبل الأصدقاء. أما اليوم، فإن تراجع الأداء الدبلوماسي، وتخبط القرارات، وإغلاق مساحات المناورة، جعل البلاد تعيش عزلة غير مسبوقة، تُكرّسها كل مناسبة دولية كبرى.

إن غياب الجزائر عن احتفالات موسكو، بعد ثمانين عامًا من نهاية الحرب العالمية الثانية، ليس تفصيلاً، بل ناقوس خطر. إنه تذكير صريح بأن تحالفات الأمس لا تُورث، وأن الشراكات تُبنى على الفعل لا على الشعارات. فالدبلوماسية، كما التاريخ، لا ترحم الغياب الطويل، ولا تُكافئ الغموض والتردد.

0 التعليقات: