الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، ديسمبر 08، 2018

معنى أن أكون كاتبا غبيا لكينيث كولدسميث ترجمة عبده حقي


(ربما أنا واحد من أغبى الأغبياء .) هكذا يبدأ النص غير المسبوق الذي جعل الشاعر الأمريكي كينيث غولدسميث (Kenneth Goldsmith) استفزازيا إلى حد ما ، في أحد أعداد مجلة  The Awl في عام 2013. 
كينيث جولدسميث ، من مواليد عام 1961 ، شاعر أمريكي قام بنشر العديد من الدواوين والبيانات مثل " الكتابة المنزلة "  Uncreative Writing عام 2009. ترجم أحد كتبه (الكتابة دون كتابة : من اللغة إلى العصر الرقمي) إلى الفرنسية عن دار النشر(جون بوات Jean Boîte ) في عام 2018 . هنا في هذا النص المترجم ، ( أن أكون غبيا Being Dumb ) ، الذي تم نشره في المجلة الإلكترونية The Awl في عام 2013 ، يشرح جولدسميث بأقل ما يمكن معنى أن يكون "غبياً " من دون أن يخلق كيانًا "غبيًّا " يعارضه في المنحى الهزلي صفة "ذكي" و" الغبي الغبي Dumb Dumb " و"الذكي الغبي Smart Dumb " وما إلى ذلك ، لا سيما في مجال الفنون والإبداع .
معنى أن أكون كاتبا غبيا
أنا كاتب غبي ، ربما واحد من أكثر الأغبياء غباء . كلما كانت لدي فكرة ، أتساءل عما إذا كانت غبية بما فيه الكفاية . وأتساءل عما إذا كانت هناك طريقة أخرى للعثورعليها لكن فكرة ذكية . إذا كانت الإجابة بالسلب ، فأنا حتما سأستمر. لا أكتب أي شيء جديد أو أصلي ، إنني أنسخ نصوصا موجودة سلفا وأنقل المعلومات من مكان إلى آخر. يمكن لأي طفل أن يفعل ما أفعله ، لكنه  لن يجرؤ على ذلك خوفا من نعته بالأبله . شاركت مؤخرا في ندوة مع صديقي كريستيان بوك Christian Bök وإذا كنت الشاعرالأكثر غباء ، فإن صديقي هذا كريستيان بوك كان هو الأذكى . مشاريعه جد معقدة وتستغرق سنوات لتحقيقها .
خلال مناقشتنا ، تحدث  صديقي كريستيان بوك بإسهاب عن مشروعً كان يشتغل عليه لمدة عشر سنوات ، والذي كان يأمل أن يحصل به على درجة دكتوراه في علم الوراثة . ولكي يؤلف قصيدتين قصيرتين ، كان عليه أن يتعلم إنشاء برامج الكمبيوتر التي ستفحص حوالي ثمانية ملايين توليفة محتملة من الحروف قبل إيجاد الحروف الملائمة . ثم قام بحقن هذه القصائد في قطعة من الحمض النووي صممت خصيصا لتقاوم حتى النهاية . كل هذا يتطلب العمل في مختبرات ويكلف مبلغا من المال يقدر بمئات الآلاف من الدولارات . يمتلك كريستيان بوك عقلًا منظمًا للغاية – عقل أقرب إلى روبوت أكثر منه إلى الإنسان - وقد أذهل الجمهور. وعندما جاء دوري للحديث ، كل ما استطعت قوله هو "... أنا أستنسخ بيانات دورة المرور."
إن كريستيان بوك وأنا معجبان بما يفعله الآخر ، لكن في الحقيقة هي أنه يستطيع بسهولة أن يفعل ما أفعله ، وأنني لا أستطيع أبداً أن أفعل ما يفعله.
كريستيان بوك هذا رجل ذكي . وذكي معناه أن يكون الإنسان طالبا متفوقا ينجز كل شيء على ما يرام . إنسان يأتي دائما مستعدا ومهيأ و ينجز أعماله بدقة مثل آلة ، وقد درس تاريخه وهو جاهز للتعامل جيدا مع معايير ميدان عمله . إنه ذكي يخضع بعناية للحدود المرسومة مسبقا ، ذكي مثل قناص يحرص جيدا على أن تبقى عينه ثابتة على الهدف . 
الذكي هو رياضي من مستوى عال ، وينجز أشياء لا يتصورها البشر الأحياء أشباه الموتى حتى في أحلامهم . كامل وعميق وخصوصي ونخبوي ، إنه ذكي يتنفس القيمة (the value) . بعد أن يمتص الدم والماء قصد الوصول إلى مكانة اعتبارية فالذكي يجلب أرباحًا أكثر للاستثمارات التي سبق إنجازها . الذكي يمضي دائما قدما. ولكن بما أنه يخاطر دائما في لعبته ، فهو مسكون بخوف البارانويا من فقدان أغلى ما حققه . الذكي ينظر دائما من أعلى كتفيه. سواء نجح أو فشل ، سواء فاز أو انهزم ، يعمل بطريقة ثنائية . الذكي هو الشخص الذي يستنزف (بكسرالزاي) ويستنزف (بفتح الزاي).
أنا غبي والغبي كسول وخامل وغير مستعدً دائما  بشكل جيد ، يستخدم حدسه وكل ما يخامره في ذهنه . فاقد عن طواعية لذاكرته – يتساءل الغبي ــ ما هو التاريخ ؟ الغبي مثل لوحة فارغة تماما . قليل الاهتمام بالتقدم والسرد التوضيحي ، يتحرك في اتجاه عرضي ، وفي بعض الأحيان يعود بعد دورانه حول نفسه إلى نفسه . يميل إلى ما هو أسهل . يتجنب اللحظات الصعبة والصاخبة ، يحب الركود والشبابيك والأنظمة التي تم التنبؤ بها لمجرد أنها تتطلب مجهودًا أقل . بالطريقة نفسها ، يحب الغبي الإعادة أي إعادة صياغة النصوص ، وإعادة تفكيك وتركيب الإطارات ، إعادة صنع الأشياء ، إعادة الميكساج بدلاً من الإبداع الشاق انطلاقا من نقطة الصفر. يحب فوضى التناقضات و يخلق المسرات من جمال السخرية الواضحة . يجعل من يومياته ومن المشترك تجارة وبالتالي فهو يلعب بحصص صغيرة جدا وبما أنه ليس لديه ما يخسره ، فهو لا يدين بأي شيء لأحد ، وهكذا فهو شخص حر.
الغبي يفعل ما هو جميل . يتشبث برأيه . يدهش. يقلق .هناك غبي غبي ( Dumb Dumb) وغبي ذكي 
(Dumb Smart) وهناك أيضا الذكي الذكي (Smart Smart) . الغبي الغبي هو ببساطة غبي ، والذكي ذكي فقط ببساطة لأنه ذكي . يرفض الغبي الذكي كلاً من الذكي الذكي والغبي الغبي ، ويختارعكس ذلك أن يتنقل بين الإثنين . الغبي الذكي حاد ودقيق . ولكي تكون غبيا ذكيا عليك أن تكون ذكيا حقا ، ولكن ليس بأسلوب الذكي الذكي .
الغبي الغبي هم المتخلفون ، العنصريون ، مدمرو ملاعب كرة القدم ، فتيات الماركوتينغ ماضغات العلك ، البيروقراطيون الصبيان أشباه ثيران الكوريدا . الغبي الغبي هو مايكروسوفت ، ديزني وسبلبيرج . الذكي ذكي هم مؤتمرات TED ( الخاصة بالتكنولوجيا والترفيه والديزاين) ومجموعات البحث وجديد الإذاعات العمومية وجامعات Ivy League ومجلة النيويوركر The New Yorkerومطاعم خمس نجوم .
للقيام بجهد كبير ، فإن الذكي الذكي هو دائما بجانب لوحة العلامة . و الغبي الذكي هم : المجموعة الغنائية (les Fugs) وموجة (Punk rock) ومعاهد الفن (the institutes of art) والروائي (Gertrude Stein) والفنان (Vito Acconci) والفنان التشكيلي والنحات (Marcel Duchamp) والمسرحي صامويل بيكيت (Samuel Beckett) والفنان (Seth Price) والشاعر والروائي الأمريكي (Tao Lin) وفنان الموضة (Martin Margiela) والفنان الأمريكي (Mike Kelley) والمخرجة والسيناريست (Sofia Coppola) . يتظاهر الغبي الذكي بأنه الغبي الغبي ولكنه يخفي لعبته بشكل جيد.
تحولات الغبي الذكي هي أيضا بجانب لوحة العلامة ولكن بطريقة مختلفة. يتظاهر كل هؤلاء المهرة الفنان الرياضي الاستعراضي McSweeney ، والمخرجة والسيناريست Miranda July ، والصحفي والمنشط الإذاعي Ira Glass ، والمؤلف الموسيقي David Byrne بأنهم أغبياء ، لكن الغبي لا يسمح لنفسه بأن يكون غبيا خوفا من أن يتم ذلك حقا ، ياله من رعب لدى الغبي !!
يتقمص الفنان البوهيمي (hipster) عناصر الغبي ( قبعة بيسبول ، وطلاءات الوجه المختلفة ، والأوشام ) لكن كعلامات موضة ، يرفض تنظير غبائه ، ويسقط كاملا في حالة الغبي الغبي . يرفض الغبي الذكي الانتماء إلى معسكر أو إلى الآخر . فالغبي الذكي ، على سبيل المثال ، ينسجم مع عناصرما هو منتم لمعسكر لكنه يرفض أن يوجد ليكون كذلك . الغبي في مواجهة الذكي ليست نسخة جديدة من الصعيد (hip) مقابل المربع الممدد (square). الغبي هو على حد سواء صعيد ومربع . لدى الغبي الذكي منظريه أمثال سيرطو Certeau وغوفمان Goffman وديبورد Debord أولئك الذين يحللون أسرار ما هو مبتذل والطابع الاستثنائي لليومي .
من الآن فصاعدا ، ما لم يحدث خلاف ذلك ، عندما سأتحدث عن الغبي ، سأعني الغبي الذكي . الغبي يدمر الأشياء ، يفعل بها ما يقول برفضه المعنى العام . عندما نفعل بها بشكل جذري ما لا يمكن القيام به لها أو عندما يتم تدميرها بشكل جذري ، فإنها ستجد حياة جديدة . فالفنان  ثّلونيوس مونك Thelonious Monk عزف نوتات خاطئة على البيانو والموسيقي (شارلزإبف Charles Ives) أنجز فصولا دقيقة . سلسلة المخرج (أندي ورهول Andy Warhol) الذي اختزل مبدأه حين قال : " أردت أن أنجز كتابا سيئا " تماماً مثلما أنجزت " أفلاما سيئة " و" فنا سيئا " ، لأنك عندما تفعل شيئا كما يجب  ، فأنت ستحصل دائمًا على شيء من نفس الشيء . إمبراطورية غبية . حقا إنها غبية .
الغبي يتجنب التلميح والمجاز، يختار بدلا من ذلك التفسير الأكثر واقعية ، يردد بصوت عال مقولة بيكيت: " إنه عار على الذي يرى رمزا هناك ." الذكي يرفض الغبي لأنه يتهمه بالشعوذة وممارسة الخدعة ، الاحتيال ، المهزلة ، النكتة الشائعة. الغبي من جانبه يغضب الذكي بتفسير لبق لكل شيء في أسفل الرسالة  مثل جون كيج عندما لعب لأول مرة مناوشات ساتي (Satie ) لمدة 12 ساعة طائعا لأمر المؤلف الذي كتبها في عام 1893 على قطعة من الورق كان من المقرر أن يتم لعبها 840 مرة على التوالي - والتي اعتقد علماء الموسيقى الأذكياء أنها دعابة تم رفضها لمدة نصف قرن . لكن عندما اتبع جون كيج هذه التعليمات ، صار غبيا لدرجة أنه أصبح كونيًا. منذ ذلك الحين ، تم تشغيل الأغنية بانتظام بهذه الطريقة . الغبي مثل نبتة الملفوف (cabbage) . عندما طرح عليه السؤال ، قال جون كيج إنها كانت أصعب أغنية ألفها ، وتطلبت منه سنوات للحصول على الشجاعة الكافية لكتابتها ولعبها .
بلغت ــ أنا الغبي ــ سن الرشد في ستينات القرن الماضي بواسطة مخذرات تضخم أشياء غير ذات أهمية وتمر في حياتنا خلسة . فكّر في العنكبوت البئيس لمجلة Life التي تم رشها بـمادة حامض الليسرجيك المخدرة LSD : لم تعد لوحته ذكية بشكل تماثلي ولكن بفوضى غبية . بين عشية وضحاها ، تولد لديه هوس بالحركات الصغيرة جدا ، والبنية واللغة سلسلة من الحركات الفنية الغبية : رقصة جودسون ، البوب ، ومجموعة فلوكسوس Fluxus للرقص والغناء والشعر، التبسيطية ، الفن المفاهيمي - كل ذلك يقوم على أساس الوضوح . يصير العد والتكرار وأنشطة أخرى صبيانية لديه موضة . في سبعينيات القرن الماضي ، كان ينعت فن الهوامش ، بفن ذوي الأمراض العقلية ، ومرض التوحد ، يحتفل به أناس مثل روبرت ويلسون : كان هناك وقتئذ سباق عام نحو غباء أكثر فأكثر . كما شهدت السبعينات اهتمامًا متجددًا بعمل الشاعرة الأمريكية جيرترود ستاين ، وهي كاتبة غبية للغاية اختارت أن تعيش عقودًا من الغباء قبل أي شخص آخر. كتبت ستاين جيرترود  galimatias باستخدام مفردات بسيطة من التعليم الأساسي. كل هذا يبدو تجريديا وغامضا . آه ، شخص ما يقطع الركح بخطوات معدودة ويدعي أنه يرقص ياله من غباء !.
يحب الغبي أن يلعب دور الغبي . كما يقول وارهول (Warhol) دائما " أشعر اليوم بالفراغ . ليس لدي أفكار. هل يمكن أن تمنحوني أفكارا ؟ ويتظاهر بالاستماع بعناية إلى الاقتراحات التي تقدم له قبل رفضها جميعًا . هذا ما جعل وارهول عبقريا . لم يرد أفكارًا غبية من الآخرين . كانت لديه أفكاره الغبية الخاصة التي كانت في المقابل أكثر ذكاءً حقًا . عندما يحاول الغبي أن يكون ذكيا ، فإنه يعطينا مسرحية مثل بيلي إيدول (Billy Idol) أوالمغني رود ستيوارت (Rod Stewart) . لكي يستمر الغبي في الحركة يجب عليه أن يبقى دائما غبيا . لكن أن أبقى غبيا أصعب من أن أبقى ذكيا . ومن خلال بذل جهد صغير ، يمكن للجميع أن يصبحوا أكثر ذكاءً ، لكن القليل من الناس يمكنهم أن يبقوا أغبياء عن وعي وباستمرار. لا يجرب الغبي الموضة لأنه لا يعيش زمن الموضة. الغبي شخص مشلول ولا يمكن استرجاعه من غبائه . هو غريب الأطوار جدا ، مبتذل جدا ومتناقض جدا ، ملتو مرات ومرات في طريقة تفكيره عندما يرغب في أن يضع نفسه في شعار(slogan) أو يشارك في حملات إعلانية . لأنه حتى لو كانت الحملات الإعلانية تبدو غبية ، فهي في العمق ذكية : لأنه في نهاية المطاف ، عليك التواصل بذكاء لإقناع أي شخص بشراء منتوج ما . الغبي يروع ماء قاعة الاستحمام . لا تعترف لجن التحكيم والجوائز بالغبي . لقد تم اختراع لجن التحكيم والجوائز لمكافأة الأشخاص الأذكياء.

0 التعليقات: