هل مازالت هناك جدوى لدورالنخب السياسية والمثقفة في المجتمعات العربية ؟
حين تنفجر الصراعات المسلحة ويدوي صوت المدافع لن يكون صوت المثقف مسموعا، الطلقة أسرع من الكلمة وأبلغ أثرا. ولأن النخبة المثقفة لا تملك سلاحا سوى صوتها تنكفئ على نفسها وتصبح منتجة ومستهلكة في نفس الوقت، أو تتابع عملها في الصفوف الخلفية دون أن ينتبه إليها أحد. ولكن، ألم تكن كذلك حتى قبل انفجار الصراعات المذهبية والسياسية في الوطن العربي؟ أعتقد أن الحديث عن دور النخبة الثقافية يرتبط بما نتوقعه منها. كان للشعر دور واضح في حقبة التحرر الوطني في المنطقة العربية، ولكنه كان ذلك الشعر التعبوي الذي يميل إلى التبسيط ومخاطبة العواطف ويغلف كل شيء بمسحة من الرومانسية.
عام 1956 مررت في طريق عودتي من المدرسة بواحدة من التظاهرات الطلابية التي احتلت شوارع المدينة يومذاك، ورأيت شاعرا يعتلي منصة شرطي المرور في وسط الساحة ويتلو قصيدته:
قل للسعيد بناره وحديده إن العراق بأسره يتضرم
كانت القصيدة كفيلة بأن تلهب مشاعر المتظاهرين وتنقل دون مواربة سخطهم على سياسة الحكومة.
كانت أطراف الصراع يومها واضحة. أما اليوم فقد اختلفت الحال، تشعبت الصراعات، وتداخلت الجبهات، وأصبحت الرؤية حتى للمتابع الدؤوب غير واضحة أحيانا. ما كان متفقا عليه في الماضي أصبح اليوم موضع خلاف.
لكن هذا هو أحد عاملين في تراجع دور النخبة المثقفة، العامل الآخر هو ما طرأ على الثقافة الجماهيرية من تغيرات ارتبطت بالتطور السريع لتقنية المعلومات. خرجت عن صمتها فئات كثيرة لم تتح لها في الماضي فرصة للتعبير، بعد أن أصبحت فرص النشر والانتشار ميسورة للجميع. بدأت هذه الفئات بإزاحة النخبة القديمة واستبدالها بجماعات أكثر حيوية وأقل تطلبا وأكبر تأثيرا في الرأي العام.
ـــ في ظل هذا المستجد العربي من في رأيك سيكون قادرا في المستقبل على القيام بهذا الدورالتثقيفي والتوعوي والتأطيري الجماهيري، أم مازال باستطاعة نخبنا استرداد مكانتها ودورها التاريخي الهادف والملتزم بقضايا المجتمع؟
لا أحد يستطيع أن يتنبأ اليوم بما سيكون عليه العالم العربي بعد خمس سنوات. والنخبة المثقفة التي انتفى دورها في الفوضى العارمة التي اجتاحت أقطارا عربية عديدة، وربما قبل ذلك لن تستعيد شيئا لم تفقده أصلا. هذا إذا اقررنا بوجود نخبة مثقفة كوحدة متجانسة وليس أفرادا مختلفي الاتجاهات والمواقف. ومع ذلك لم تتوقف مساعي فئات مثقفة هنا وهناك لمواجهة الخراب.
في شهر سبتمبر من هذه السنة قرر عدد من الشعراء القيام بمسيرة شعرية تبدأ من البصرة وتنتهي في شارع المتنبي في بغداد مرورا بمدن الناصرية والسماوة والديوانية والنجف وكربلاء. سيقرأ الشعراء قصائدهم في الشارع لجمهور لا شأن له بالثقافة، يدعون فيها إلى التسامح ونبذ العنف. هل سيتحقق لهم هذا الهدف أم أن التظاهرة لن تكون سوى إعلان براءتهم مما يجري اليوم؟ مهما يكن فهي محاولة تندرج في استعادة الدور التعبوي في ظرف غير مواتٍ.
قبل ذلك كانت مجموعة أخرى قد نظمت أياما للقراءة في بغداد لسنتين متتاليتين أو ثلاث جرى خلالها تداول واسع للكتب عن طريق البيع أو التبادل أو الإهداء أيضا، وخطت بذلك خطوة باتجاه ثقافة في متناول الجميع.
ولأنني أرى أن دور "الثقافة" وليس "النخبة" أبعد من العمل التعبوي فإنني أعلق أهمية كبيرة على المتلقي. فلن تكون لأي عمل أدبي أو فني قيمة ما لم يصل إلى المتلقي. لا بد إذن من العودة إلى القراءة، إلى الكتاب. لكن مشكلة القراءة ليست مشكلة اقليمية.
في برلين نظمت واحدة من الجمعيات ذات سنة قراءات في الساحات العامة كان الحضور فيها محدودا، وفي سنة لاحقة نظمت جمعية أخرى وضعت تشجيع القراءة هدفا لها برنامجا حافلا قدمت خلاله أكثر من 600 قراءة ذهب فيها الكاتب إلى الجمهور حيثما وجد وليس العكس، قرأ الكتاب نصوصهم في غرف الانتظار في عيادات الأطباء وفي قاعات المراجعين للمؤسسات المختلفة، في نوادي الشباب والمصحات والمكتبات وبيوت الثقافة، وفي ملتقيات نسوية تهتم بالطبخ أكثر من اهتمامها بالعمل الأدبي. لا أظن أن عدد الحاضرين في أي من هذه القراءات بلغ عدد أصابع اليد. وفي أوقات أخرى كان الكتاب والشعراء يأتون بجمهورهم معهم، يقومون بتعبئة للأصدقاء والمعارف لأن نجاح الأمسية يقاس باهتمام الجمهور وعدد الحاضرين.
وإذا كان قراء الرواية العربية -النمط الأدبي الذي أصبح أكثر رواجا- في ازدياد فذلك لا يمكن أن يتخذ دليلا على تأثيرها الفكري، فحتى تلك الروايات التي تطرح أكثر الموضوعات مأساوية وأكثر الصور ايلاما تكاد تكون اليوم أعمالا ترفيهية، يقبل القارئ عليها لأنه يجد فيها صورة لمأساته أوعزاء له. علينا إذن أن نعلم أبناءنا القراءة، لا أعني هنا فك رموز الكتابة بتعلم الحروف – وإنما القراءة الواعية. لا نكون بذلك قد مهدنا الأرض للنخبة المثقفة لاستعادة دور ما، وإنما وضعنا نهاية لاحتكار الثقافة واعترفنا بقدرة كل فرد في المجتمع على التفكير والتقييم واتخاذ القرار.
سيرة الكاتبة
ولدت في مدينة الموصل في شمال العراق وفيها أتمت دراسها الثانوية، درست القانون في جامعة بغداد والصحافة في جامعة لايبزك وفيها حصلت أيضا على درجة الدكتوراه عن أطروحتها "اتجاهات عالمية في تطور وسائل الإعلام" عام 1986
درست الرسم في معهد الفنون الجميلة في بغداد عام 1967 والموسيقى عام 1969 في نفس المعهد.
عملت بين 1961 و1977 في الصحافة العراقية ونشرت مقالاتها المدافعة عن حقوق النساء في مختلف الصحف العراقية.
ترجم عدد من نصوصها إلى:
الانكليزية
والألمانية
والإسبانية
والفارسية
والمالايالامي، وهي احدى اللغات الهندية الكبيرة
تعيش منذ 1978 في ألمانيا ومنذ 1983 في برلين.
0 التعليقات:
إرسال تعليق