الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، أكتوبر 01، 2022

حمام "الفنون" عبده حقي


كيف ومن أين دخلت الفنون إلى حمام حومتنا ؟ سؤال كان وما يزال يؤرقني ويتردد صداه في ذهني كلما عدت إلى مكناس العتيقة ومررت من هذا الزقاق الضيق حيث تداهمني سحابة مشبعة برائحة العرق والصابون وأبخرة الزفرات الحارة .

أقف طويلا .. طويلا أمام البوابة الخشبية ، بدفتيها العريضتين المشوبتين بتجاعيد الرطوبة وينهض فجأة ذلك السؤال القديم قدم حمامنا "من أقحم الفنون إلى الحمام؟" هل للفنون أيضا أدرانها حتى تكون جمالياتها في حاجة ماسة من وقت لآخر إلى الاستحمام بالصابون المعطر بالليمون والماء الدافئ مثلها مثل باقي بني البشر .

حين دخلت وأنا طفل صغير أول مرة إلى "حمام الفنون" .. تاهت عيناي في غيمات البخار الغامض  .. كانت بعض تشكلاته تتراقص أمام عيناي المعمشتين .. رأيت تلك السحابات الشفيفة تتهادى في الهواء في رقصة مخملية .. هلامية .. كان هناك شيء ما يغريني باختراق ذلك الجدار الرذاذي لأقبض على معصم السيدة "الفنون" .

كانت يداي ترتجفان وهما تدفعان البوابة العريضة الثقيلة المشبعة بحبيبات الماء المندس في مساماتها .. كأنني أدفع صخرة كهف أسطوري .. أتلصص من خصاص الدفتين علني أرى تجليات "الفنون" وهن مثل أميرات الأساطير الفرعونية تستحمن عاريات بأجسادهن اللامعة تحت ضوء المصباح الخافت .. أجسادهن التي تنزلق على منحدرات تورماتهن اللذيذة فقاعات الرغوة التي تلهب الشهوة والسعادة في نفوس الرائين .

لعلني كنت أستحم في ماء "الفنون" القزحي وليس بماء الشرايين المعدنية التي تتخلل مفاصل الحيطان المتلبسة باللزوجة .. لأن الفنون طاهرة مثلما هو الماء القادم إلينا من المنابع الأزلية التي جعلت من الماء كل شيء حي .. ولربما كان مهندس حمامنا فنانا كان يحلم أن يجعلنا نقيم في فضاءات من الفنون .. نقيم في فراديسها الباذخة ونتسامر في مقصوراتها المخملية .

كنت أفرك عيناي .. ثم أعيد فركهما جيدا علني أتبين في غبش الظلام قامات الفنون تتحلقن في جوقة إبداعية يتخللها خرير الماء الدافئ المشفوع بآهات الارتخاء والهمهمات و الدندنات الخفيضة . ثم يسافر نظري في فسيفساء الحيطان اللامعة وأمضي بناظري في ملاحقة حزام الزخرفات الأصيلة وتجويفاتها الظليلة . ثم يصعد ناظري مسحورا إلى القبة الباروكية المتلبسة بلألآت القطرات العالقة في السقف إلى حين في انتظار موعدها المتواطئ لتهوي على طراوة الأجساد الصقيلة المتمددة على السطيحة الدافئة .

أين اختفت الفنون بعد أن أغلقت يد الشيخوخة بوابة حمامها ووشمت حيطانه بأسارير وتجاعيد الزمن الماكر!؟

0 التعليقات: