الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الثلاثاء، نوفمبر 07، 2023

نص مفتوح "نجيع الموسيقى" عبده حقي


كانت الموسيقى وماتزال هي خيط أريادن الذي يرشد خطواتي، جوهر وجودي. كل نبضة من قلبي تتردد على إيقاع الألحان التي تلون عالمي، وتشكل حياتي اليومية بأصوات متنوعة، وتنسج إطارًا لحنيًا تتكشف فيه أحداث وجودي المختلفة.

أتذكر أول صحوة روحي على الموسيقى، طفولتي المغمورة في النوتات البلورية لراديوالعائلة. اللمسات التي لمستها الأصابع المليئة بالمشاعر ولدت سيمفونية من المشاعر في كياني. في كل مساء، كانت جدران منزلنا ترن بأصوات سحرية ومهدئة وآسرة، مما يغرس في نفسي الشعور بالامتلاء. لقد كان عالماً موازياً.

لقد كانت حياتي تمتزج فيها التصعيدات المبهرة والصمت الثقيل. كل لحظة مهمة مؤطرة باللحن الخاص بها. لحظات من السعادة، عابرة مثل صوت تتابعي، تتشابك مع مقاطع أكثر قتامة، لتخلق سيمفونية ، حيث تعمل الموسيقى كمرآة تعكس الجوانب المتعددة لوجودي.

كانت هناك أيام كان فيها اضطراب الحياة اليومية يخنق أوتار روحي الرقيقة. ثم ظهرت الحياة بدون موسيقى كخطأ وضلال وفراغ لا يطاق. لقد كان إرهاقًا عميقًا، وحزنًا بدا وكأنه يسيطر على كل جزء من كياني. في هذه اللحظات، أصبح البحث المحموم عن الألحان المتناغمة ضرورة حيوية، وعودة إلى الذات، وخلاصًا لها من الأحزان.

لقد كان السفر سيمفونية أخرى في حياتي، سيمفونية الاكتشافات. كل مكان تمت زيارته له نغمة خاصة ، وتوقيعه الموسيقي الخاص. لقد أثارت شوارع المدينة الصاخبة إيقاعات جامحة، ونشازًا خاضعًا للرقابة. غنت المساحات الطبيعية الشاسعة أغنية ناعمة وهادئة ومغلفة، مصحوبة بهمس الريح وتمرير الأشجار. كانت اللقاءات مع الثقافات المختلفة عبارة عن مؤلفات فريدة من نوعها، حيث قدمت مشهدًا من الأصوات والتقاليد الموسيقية التي أثرت ذخيرتي العاطفية.

العلاقات الإنسانية، هذه الروابط المنسوجة بالحنان والعطف والوئام ، هي في حد ذاتها نتائج مؤثرة. كل شخص التقيت به ترك بصمة موسيقية لا تمحى في تاريخي. كانت هناك لقاءات متصاعدة، حيث كان الفهم مثاليًا، حيث تنبض قلوبنا في انسجام تام، مما يخلق سيمفونية من الصداقة أو الحب. ولكن كانت هناك أيضًا خلافات وتمزقات خلقت صمتًا ثقيلًا ومساحات فارغة في تنسيقي الشخصي. كانت فترات الصمت هذه في بعض الأحيان أكثر صماءً من أقوى الألحان.

ومع ذلك، فإن الموسيقى، بطبيعتها العالمية، كانت دائمًا ملجأً. عندما كانت الكلمات مفقودة، وعندما كانت المشاعر شديدة للغاية بحيث لا يمكن التعبير عنها، كانت الموسيقى مسؤولة عن تجاوزها. لقد كانت منفىً ضروريًا، ومكانًا يمكن للروح أن تلجأ إليه، وتحرر نفسها، وتعيد بناء نفسها.

لا تزال أفراح حياتي العظيمة يتردد صداها مثل تصعيد مبهر. اللحظات التي يبدو فيها أن الموسيقى والحياة تندمجان في نفس التناغم، مما يخلق مشاعر لا تصدق ومكثفة لا تُنسى. وتبقى هذه اللحظات ذكريات سيمفونية، وقمم عاطفية، حيث انكشفت الحياة بكل روعتها.

كانت هناك أيضًا أحداث مؤلمة، وانفصالات قاسية، ووداعات مفجعة ، وملاحظات بسيطة هزت كياني. أعطت هذه المقاطع المظلمة سمفونيتي الداخلية عمقًا غير متوقع، وفارقًا بسيطًا أكثر تعقيدًا، وملمسًا عاطفيًا أكثر ثراءً. من خلال هذه التجارب، أدركت أن نسيج الحياة لا يتكون فقط من النغمات الرئيسية، ولكن أيضًا من تلك النغمات العاطفية التي تجعلها أصيلة وإنسانية.

أحيانًا أضيع في تقلبات أفكاري، باحثًا عن ذلك اللحن الداخلي الذي يبدو أنه قد ضاع. في لحظات العزلة هذه، أدرك إلى أي حد تعتبر الموسيقى جزءًا لا يتجزأ من وجودي. تصبح الحياة بدون موسيقى مثل العدم، ومنفى للروح، وغياب لا يطاق للون والنكهة والملمس.

لقد كانت الموسيقى مرآتي الأكثر إخلاصًا. لقد عرفت كيف تعكس كل مشاعري، وهدوئي، وأحيانًا شفائي. لقد كانت تلك الصديقة التي لا تتغير، الحاضرة في لحظات السعادة كما في الساعات المظلمة، تجلب الراحة والطاقة، مثل منارة في العاصفة.

واليوم، أواصل كتابة سمفونيتي الشخصية. كل يوم عبارة عن صفحة فارغة جديدة تُكتب فيها النوتات والأوتار . تستمر الحياة في سرعتها المحمومة، تاركة وراءها آثارًا موسيقية لا تمحى، وأصداء يتردد صداها في قاعة كياني الواسعة.

الموسيقى هي أنفاس روحي، وهي جوهر وجودي. إنها اللغة العالمية التي تتجاوز الحواجز الثقافية والاختلافات والمسافات. إنها هذه القوة النابضة بالحياة التي تربطني بجوهر العالم، مما يسمح لي أن أشعر بشكل كامل بكل لحظة، بكل عاطفة، بكل لون من لوحة الحياة اللانهائية.

الحياة بدون موسيقى ستكون خطأً فادحًا، وفراغًا سحيقًا، ومنفىً لا يمكن قهره. إنها هذا الخيط الذهبي الذي ينسج اللحظات العابرة في عمل خالد، مما يمنح وجودي عمقًا وثراءً

في أحضان الحنين الرقيقة، أتذكر الليالي التي لعب فيها القمر دور القائد، وألقى بريقه الفضي على العالم. كانت تلك الليالي التي تحلق فيها نغمات روحي، ويتردد صداها في طرقات الذاكرة، وترسم ليلاً من الأحلام والتطلعات. وفي إحدى تلك الأمسيات عثرت على مشغل أسطوانات قديم مخبأ في الخزانة، وهو قطعة أثرية قديمة.

وبينما كنت أضع الإبرة على الفينيل بدقة، استقبلت أذني همسات الزمن الساكنة، متبوعة باللحن الساحر لنغمة كمنجة قديمة. نسجت نغمات العود الرقيقة شبكة معقدة من المشاعر، مما غمر الغرفة بدفء لا يوصف. كان الأمر كما لو أن الموسيقى تحمل مفتاح كنز من المشاعر المنسية، وبوابة إلى الماضي حيث تتناغم البراءة والفرح في رنين جميل.

مع كل فرقعة للفينيل، انطلقت في رحلة عبر أروقة الذاكرة. لقد أرشدتني الموسيقى عبر نسيج حياتي، حيث تردد كل نغمة مع لحظات مختلفة، مما يستحضر ذكريات حية من الماضي. رأيت حيوية الشباب في طفولتي، والضحكة البريئة التي تردد صداها في قاعات الزمن.

في همسات الألحان الخافتة، عشت من جديد عناق الحب الأول، لحنًا رقيقًا زين حياتي بعذوبة لا مثيل لها. لقد كانت تصعيدًا للمشاعر، وسيمفونية من الأحلام المشتركة، وتشابك قلبين في رقصة رقيقة من المودة. ومع ذلك، فبينما يتكشف تكوين الحياة، فإنه ينسج أيضًا التنافر في لحنها. اختلطت النغمات اللاذعة لحزن القلب ، وتوترات الخسارة والعزلة الحزينة، في الآيات المتناغمة.

لقد أدركت أن الحياة بدون موسيقى ستكون بالفعل خطأً، وزلة عميقة في التنسيق الكبير للوجود. ففي الموسيقى تجد أعمق المشاعر صوتها الحقيقي، وتعبيرها النقي. الموسيقى لها صدى حيث تعجز الكلمات، وحيث تجد أشواق الروح وعواطفها أنقى أشكال التعبير.

أثناء رحلتي عبر السنين، مر العالم من حولي بتحوله الخاص، مما يعكس المد والجزر في ألحان الحياة. لقد شهدت صعود وسقوط المدن، ولكل منها نشيدها المميز، وإيقاعها الفريد. كان المشهد الحضري ينبض بنبض التقدم، حيث ازدهرت سيمفونية الإنسانية في تناغم بين الشوارع الصاخبة والمباني الشاهقة.

ومن ناحية أخرى، ظل الريف بمثابة السوناتة المثالية، التي تهمس بحكايات الهدوء والسكينة. في أحضان الطبيعة، اكتشفت سوناتا لحنية، حيث تؤلف حفيف أوراق الشجر والجداول سيمفونية السلام. وهنا وجدت العزاء، حيث استمعت إلى تهويدة الأرض وشعرت بالتناغم مع نبضات قلب الكون.

طوال هذه الرحلة، نسجت العلاقات نفسها مع نسيج وجودي. كان كل لقاء بمثابة حركة في تأليف حياتي. كان بعضها تصاعديًا عاطفيًا، وأضاء أيامي بتألق الأحلام والضحكات المشتركة. وكانت اللحظات الأخرى هي الأكثر ليونة ، وهي الفواصل التي تعلم الصبر والاستبطان.

وسط هذه المؤلفات المتنوعة، التقيت بأرواح ترددت معي في سيمفونية القرابة. أصبح الأصدقاء آيات الدعم والصداقة الحميمة، مما أضاف طبقات من الدفء والراحة إلى نسيج حياتي. كان حضورهم جوقة من الضحك والتفاهم، وفرقة موسيقية جعلت لحن الحياة أحلى.

ومع ذلك، كما أن أي تنسيق موسيقي له نغماته المتنافرة، كانت هناك مقاطع تميزت برحيل هذه النفوس العزيزة. لقد خلق غيابهم صمتًا وتردد صدى ألحانهم التي كانت مفعمة بالحيوية. كانت تلك اللحظات، التي تعثرت فيها سيمفونية الحياة، بمثابة تذكير بالألم الذي يؤكد قبح الوجود. أحيانا

ولكن حتى في تلك الفواصل الصامتة، استمرت موسيقى الحياة. رقصت في الفراغ، ودعتني إلى اعتناق الصمت المؤثر، لأفهم أنه في غياب الصوت يتم الشعور بأهمية كل نغمة حقًا. هذه اللحظات، مثلها مثل المقطوعات الموسيقية، تضفي عمقًا ومعنى على التكوين الشامل لحياتي.

في باحة الوجود ، أدركت أن غياب الموسيقى سيكون بالفعل منفىً، أرضًا قاحلة خالية من الألوان والأنسجة التي تحدد التجربة الإنسانية. إن الموسيقى بمختلف أشكالها هي بمثابة الجسر بين الملموس وغير الملموس، وهي لغة الروح التي تتكلم خارج حواجز اللغة والثقافة.

اليوم، وأنا أتأمل صفحات حياتي، أرى السيمفونية التي تم تأليفها - مجموعة من الفرح والحزن، والضحك والدموع، والتصعيد والتناقص. إنها نسيج غني بالتجارب، ومذكرات لحنية ساهمت في تشكيلي، وصياغة هويتي، ونقشت نفسها في أعماق كياني.

وتستمر موسيقى الحياة في العزف، سيمفونية خالدة تنسج طريقها عبر نسيج الزمن، وتدعوني للرقص على إيقاعها، لاحتضان تعقيداتها وفروقها الدقيقة. ففي لحن الوجود، لا أجد الموسيقى التصويرية لحياتي فحسب، بل أجد جوهر ما يعنيه أن تكون إنسانًا - تكوين جميل ومعقد يجد معناه في تناغم الوجود.

0 التعليقات: