الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، يناير 31، 2024

نص سردي "همسات اللقاء" عبده حقي

 


إشارة لابد منها :

قصيدة "همسات اللقاء" شكلت عتبتي الأولى في مساري الشعري والأدبي والثقافي بشكل عام .. إنها أول قصيدة عمودية كتبتها ذات أرق في ليلة من ليالي صيف عام 1977 وقد أذيعت في برنامج "ناشئة الأدب" الذي كان يشرف على إعداده الشاعر الأصيل المرحوم إدريس الجاي"

كنت يافعا وقتئذ .. مثل زورق ورقي يبحر في محيطات الوجود المتلاطمة، وفي زوية ما من مخيلتي ، تجرأت ذات ليلة على أن أحلم بقصيدة تتجاوز المألوف في يومياتي العادية وتحمل عنوان "همسات اللقاء".

كان جوهر ذلك الزمن السبعيني عبارة عن قماش أحمر بلون التمرد النابض بالتطلعات وأنفاس الحرية الجامحة. لقد كانت حقبة تردد فيها الإبداع بأنغام الانتفاض الغيواني، وبدا أن كل نبضة في قلبي كانت تتزامن مع إيقاع التحول المجتمعي المغربي والثوري العربي.

منذ أن شرعت في أسفاري الشعرية، منذ تلك الليلة ، أحسست بارتباط وثيق وعميق بسحر اللغة.. متوهما نفسي شاعرًا بجسد بشري ورأس طائر.. مخلوق خرافي يحلق مزهوا فوق قمم جباله الإبداعية وعاليا .. عاليا جدا عن السفوح البشرية.

كانت دقات آلة الداكتيلو تردد معي سيمفونيتي الجميلة ، مع كل نقرة ونقرة تصدح نغمة ساحرة في بلورة طموحاتي وتطلعاتي الشعرية.

كان العالم مثل لوحة تشكيلية رامزة ، وكلماتي ترسم مشاهد تعكس دموية وعرق ذلك العصر السبعيني المضطرب. لقد امتزج الحبر على صفحات مسوداتي بنجيع التمرد، فأصبحت أشعاري مثل همسات يتردد صداها في أروقة شراييني.

كانت أول قصيدة تفتقت يومئذ ولدت موسومة ب "همسات اللقاء" .. كانت عبارة عن مزهرية من دفق العواطف التلقائية .. لوحة من الضوء والظلال لرقصة الحياة المتشابكة بالأحلام. كان مسعاي البدائي ترسيم ذلك اللقاء السري بين العقل والروح .. لقاء تجاوز حدود الوجود الأليف. كان من المفترض أن تكون الأبيات العمودية العشرين شهادة على احتفائي بالجمال الموجود في همسات الزمن العابرة.

وأنا أقف اليوم على حافة العقد السادس من عمري، أجد نفسي أحدق في تلك الخطوات التي تركتها محفورة على رمال الزمن من ورائي. تبدو مثل أحلام شاعر يافع برأس آدمي وعيني صقر .. أحلام نائية وغير مألوفة بشكل وثيق في نفس الوقت، مثل لحن متفرد سوف يبقى إلى الأبد وشما في ثنايا ذاكرتي.

ماذا تبقي من ذلك الحلم السبعيني اليوم ؟ ومن الهمسات التي كانت ملأت تفكيري ذات يوم بالوعود وبالمواعيد الشعرية؟

حياتي، مثل راوي أشعار بارع، نسجت معلقاتها الشعرية عبر نول الزمن. لقد أفسحت مفاتيح الآلة الكاتبة "الداكتيلو" في حومتي المجال أمام الرنين الناعم ، وتطورت المشاهد التي رسمتها ذات مرة بالكلمات إلى نسيج متشابك من التجارب.

الهمسات، التي كانت ذات يوم أثيرية ومعبأة بالوعود، أصبحت الآن تتردد بثقل السنين المتراكمة على كاهلي . إنها تحمل حكمة العمر، وندوب المعارك التي خاضتها، والطعم الحلو والمر للقصيد المفقود.

"همسات اللقاء" جعلتني ذلك الراوي والبطل في الحكاية الملحمية . لقد تكشفت الألغاز التي كانت تكتنف الطريق أمامنا في سلسلة من الفصول، يكشف كل فصل منها جانبًا من جوانب اللغز الوجودي. إن رأس الطائر، الذي كان في يوم من الأيام رمزًا للتعالي والتحليق الشعري الشاهق، أصبح الآن بمثابة تذكير بالطبيعة العابرة للزمن - للأحلام التي هربت والحقائق التي أوقفتها.

لكن أصداء جيل السبعينيات الجميلة لا تزال تتردد في أروقة شراييني. ربما تكون تلك الهمسات قد تغيرت، لكن جوهرها لا يزال قائمًا.

إنها الشوق الأزلي للمعنى، والسعي المتواصل للجمال، والعشق الذي لا يفنى في القوة الكيميائية للكلمات. واللقاء، رغم مراوغاته، يطلع مع كل شروق ويأفل مع كل غروب، في قزحية المجازات، وفي لحظات الاستبطان الهادئة.

وهكذا، عندما أتأمل هذه الرحلة من السبعينيات إلى الوقت الراهن، أدرك أن قصيدة "همسات اللقاء" التي حلمت بكتابتها ذات ليلة صيفية بيضاء ليست معتقلة في صفحات دفتر مدرسي أو خربشة قلمي أو طقطقة آلة الداكتيلو . بل إنها كيان حي يتنفس عددا لا يحصى من التجارب التي شكلت مساري الإبداعي اليوم . إن ضمير المتكلم الغامض والمهيمن فيها ، هو بطل هذه الأسطورة وهو سارد دائم التحول في نهر دمي.

وأنا أعتنق اليوم عقد الستينات من عمري، أحمل معي أصداء حلم ذلك الشاعر اليافع، بروح الإبداع التي تتحدى قيود الزمن. ربما يكون رأس الطائر قد نجا من العواصف وسيف الحجاج وحلّق عاليا وحرا في سماء زرقاء صافية تارة وملبدة بالغيوم تارة أخرى ، لكنه يظل رمزًا للمرونة وقوة الخيال المستديم. ربما تكون "همسات اللقاء" قد غيرت قافيتها وبحرها الشعري وعمودها إلى قصيدة نثرية اليوم ، لكنها سوف تستمر في التغني بموسيقى الحياة.

إنها أول قصيدة انبثق برعمها في شجرتي الإبداعية ليست مجرد إبداع شعري، بل هي انعكاس للرحلة نفسها - رحلة تغزل خيوط التطلعات ، الربح والخسارات، الأحلام والإحباطات. إنها استكشاف للذات، والسعي لفهم الرقصة المعقدة بين الإنسان وربة الشعر، ووادي عبقر ، بين ما هو دنيوي نمطي وفج وما هو استثنائي .

عندما كتبت هذه الشهادة وأنا أفكر في لغز وجودي، أدركت أن حلم السبعينيات ما يزال حيًا ، ليس كذاكرة نائية ولكن كشهادة حية وحاضرة على القوة الدائمة للروح الشعرية .

قد تتلاشى في يوم ما "همسات اللقاء" في خلفية حديقة تفكيري ، لكن أصداءها سوف تبقى منقوشة كالوشم في كياني.

وبينما أبحر مع تيار الأنهار المجهولة للسنوات المقبلة، أحمل معي حكمة العمر، وأصداء حلم ذلك الشاعر السبعيني اليافع ، والوعود الأبدية ببدايات جديدة.

تابع


0 التعليقات: