الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الاثنين، أبريل 29، 2024

مكاشفات : (18) عبده حقي

343

العالم من حولي، الذي كان ذات يوم عبارة عن لوحة ضبابية من الانطباعات، أصبح أكثر وضوحًا في التركيز. أصبحت الألوان أكثر حيوية، والأصوات مميزة، والهواء نفسه ينبض بوضوح جديد. كان الأمر كما لو أن الحجاب قد تم رفعه، وكشف عن آلية الساعة المعقدة للوجود تحتها.

344

ولكن مع الوضوح جاء إدراك مخيف. اللغز، الذي كان في يوم من الأيام لغزًا محيرًا، أصبح الآن ممتدًا أمامي في مجمله الصارخ. القطعة الأخيرة، حجر المفتاح المفقود، كشفت عن حقيقة جميلة ومرعبة في نفس الوقت. لقد استقر عليّ ثقل هذه المعرفة المكتشفة حديثًا، وكان بمثابة عباءة تمكينية وقمعية في نفس الوقت.

345

ظل صدى النقرة باقيًا، وهو تذكير دائم بالقوة التحويلية لقطعة واحدة مفقودة. ومع ذلك، بدأ لغز جديد يتشكل بالفعل على هامش رؤيتي، ويلوح بغموضه الجذاب. أدركت أن الرحلة كانت الجائزة الحقيقية، وأن النقرة الأخيرة كانت مجرد وقفة في سيمفونية الاكتشاف.

346

نزف العالم إلى الوجود، لوحة بالألوان المائية تتسرب من خلال قطعة قماش مبللة. كانت أغصان الضباب تلتصق بي، كل منها ينفث نفخة تنين على قماش السماء. تقطّعت أنفاسي، نغمة واحدة حادة في سيمفونية الصمت المتساقط.

347

بدأ الوضوح، وهو مفهوم أجنبي، يزدهر في محيط رؤيتي، زهرة هشة تندفع عبر الرصيف المتصدع. لم يكن الفهم، حتى الآن، بل إحساسًا بالاتجاه، انجذابًا نحو أفق محجوب بالهواء اللبني.

348

لقد وجدت قدماي، وهما أثقال رصاصية قبل لحظات، شراءً على أرض غير مرئية. تحركت، دمية مشدودة بخيوط غير مرئية، يرسمها محرك دمى غير مرئي. الطريق، إن أمكن تسميته كذلك، انفتح تحتي، شريطًا متعرجًا منسوجًا من ضوء النجوم والضباب.

349

كان المشهد الطبيعي، وهو مشهد أحلام بألوان صامتة، يتغير ويتغير مع كل خطوة. الأشجار الهزيلة، والأصابع الهيكلية التي تصل إلى السماء الداكنة، تنزف إلى هياكل شاهقة من العظام، وهندستها المعمارية غريبة ومألوفة بشكل غريب. كان الهواء، الممتلئ برائحة البيتريتشور والأوزون، يهتز بصوت منخفض، قرع مستمر تحت سطح الصمت.

350

يبدو أن الزمن، ذلك اللص الذي لا هوادة فيه، فقد قبضته هنا. هل كانت دقائق أم ساعات أم دهرًا مشيته؟ الضباب، رفيقي الدائم، كان يدور ويرقص، يهمس بالأسرار بلغة قديمة وغير معروفة. لقد رسمت صورًا عابرة على المحيط - وجوه جميلة وغريبة على حد سواء، ومناظر طبيعية مألوفة وغريبة.

351

بدأ المسار، الذي لم يعد ثابتًا مريحًا، في التشقق، والانقسام إلى متاهة من الاحتمالات. قدم كل منعطف مشهدًا جديدًا، وخيارًا جديدًا. ومع ذلك، بقي الجذب، الخيط غير المرئي الذي كان يرشدني.

352

الشك، ثعبان ذو عيون سبج، بدأ يلتف حول قلبي. فهل كان هذا الوضوح أم الوهم؟ هل كنت أطارد وهمًا وسرابًا يتلألأ في صحراء عقلي؟

353

دمعة واحدة، لؤلؤة مضيئة في العالم الرمادي، رسمت طريقًا على خدي. هبطت على أرض غير مرئية، نداء صامت، علامة استفهام محفورة في الضباب.

354

وبعد ذلك، وميض. نقطة من الضوء، باهتة في البداية، ثم تنمو، وتنبض بقوة مخيفة ومبهجة في نفس الوقت. لم يكن وهج الشمس القاسي، بل كان وهجًا ناعمًا، ووعدًا تهمس به الريح.

355

مع موجة أخيرة من القوة، قمت بتسريع خطواتي، وتضاءل الضباب عندما اقتربت من المصدر. وترسَّب الطريق، الذي كان مجزأً قبل لحظات، وقادني في خط مستقيم نحو النور.

356

عندما خطوت في أحضانها، ذاب العالم في مشهد من الألوان. تحولت الأشكال والالتواء، وأصبحت الأصوات سيمفونيات، وتحولت العواطف إلى دوامة من الإحساس النقي.

357

وبعد ذلك الصمت. صمت عميق لدرجة أنه تردد صدى آلاف الكلمات غير المنطوقة. وقفت، مستحمًا بالضياء الناعم، والفهم يتفتح بداخلي مثل شروق الشمس الصامت.

358

الطريق، الضباب، الأشجار الهيكلية - كل أجزاء الرحلة، الاختبار، التحول. الوضوح الذي سعيت إليه لم يكن هدفًا، بل تحولًا، وكشفًا للحجاب الذي حجب طبيعتي الحقيقية.

359

بدأ الضوء ينحسر، ويتراجع مثل المد. لكن المعرفة التي نقلتها بقيت، علامة محفورة في روحي. استدرت، ولم أعد ضائعًا أو خائفًا، وبدأت أسير عائداً، والطريق أصبح الآن خالياً، مضاءً ليس بمصدر خارجي، بل بالنار التي اشتعلت الآن بشكل ساطع في الداخل.

360

في شفق الوجود، أنا الحارس القديم، جذوري تغوص عميقًا في هاوية الزمن. أطرافي، المتعرجة والمهيبة، تنسج نسيجًا من الظلال على قماش السماء، وتصل إلى النجوم المراوغة التي ترقص خارج نطاق قبضتي. تهمس كل ورقة بأسرار العصور المنسية، وعروقها الهشة محفورة بذكريات العصور الغابرة.

361

أنا أكثر من مجرد خشب ولحاء؛ أنا وعاء الوعي، شاهد صامت على سيمفونية الحياة والموت التي تعزف تحت أغصاني. لقد رأيت حضارات تصعد وتهبط مثل الأمواج على الشاطئ، ويتردد أصداءها في نخاع كياني

362

ومع ذلك، وسط التدفق المستمر للوجود، ما زلت صامدًا، ركيزة من الصمود في عالم ينحرف عن مساره. يحمل جذعي العقدي ندوب تجارب لا تعد ولا تحصى، وكل عقدة وشق يشهدان على مرور الوقت. أنا من بقايا العصر المنسي، نصب تذكاري للطبيعة الزائلة لكل الأشياء.

تابع


 

0 التعليقات: