الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، أغسطس 07، 2024

نص سردي "الحالمات به" عبده حقي


في الممرات المظللة ، تنطوى الحقيقة على نفسها، ويدور الزمن مثل تيار ريحي ضعيف، يتسرب عبر ألواح السطيحة ويتدفق على الجدران. تطل سماء الليل، ستارة مخملية نيلية متناثرة بالنجوم، من خلال البيت العاري ، وتلقي بنظرتها الكونية على الأهالي في الداخل. كل غرفة، هي كون بحد ذاتها، تطن بفوضى الأحلام الهادئة.

هنا تقعد امرأة بوجه من البورسلين وشعر كالحرير وعينان تحملان عواصف منسية على طاولة طويلة قاحلة. تمسك يداها الدقيقتان تفاحة خضراء - عالم صغير في قبضتها. تنبض التفاحة بنور جواني، وتكشف عن مخلوقات صغيرة تدور وترقص في أعماقها. تحدق فيها، ويبدو على وجهها مزيجً من الصفاء والكآبة، وكأنها تشهد تحلل المجرات داخل تلك الكرة الزمردية.

في أعلى رأسي، تتحدى الجاذبية والمنطق، سيدة ملفوفة بعباءات فضفاضة تحوم في الهواء، ملاك أو ربما نجمة ساقطة. تمتد أطرافهما الطويلة كما لو كانا يريدان الإمساك بشيء غير ملموس، شيء ضائع في الأثير. يتوج رأسهما هلال شاحب، يلقي بتوهج طيفي ناعم. إنهما معلقتان في لحظة من الهبوط الأبدي، أو ربما الصعود، محاصرين إلى الأبد بين العوالم الملغزة.

كان على يسارهما يطيش رأس مخروطي ، يرتدي قماشا أخضر، فوق سطح أحد المنازل. تعزف أصابعه الطويلة على قيثارة غير مرئية، وتخرج من أطراف أصابعه خيوط موسيقية متعرجة في الهواء مثل الكروم الأثيرية. إلى جانبه يقفز كانيش صغير أبيض اللون يمرح عند أقدامه، ويطارد الألحان التي ترفرف حوله مثل الفراشات. ورغم صمت الموسيقى، إلا أنها تتردد في المشهد بأكمله، كتهويدة مخيفة تهتز في نخاع الوجود.

عند النزول عبر سلم حجري، تحرك طابور برشاقة مهيبة. تقودهم امرأة موشحة بالظلال، ووجهها مضروب بستار من ظلام يغطي رأسها. تمد يدها، وتلمس الجدران الحجرية الباردة وكأنها تتحسس طريقها عبر ذكرى منسية. وخلفها، يقف رجل بوجه قطة تتلفع في ثوب أحمر، يحمل كرة خضراء - توأم للواحد على الطاولة. تتلألأ عيونه الحادة والعارفة بأسرار الطقوس القديمة والمعرفة المحرمة.

وبعد ذلك، تحتضن امرأة ذات شعر ذهبي آلة تشيلو ضخمة، وتخرج بأصابعها نغمات عميقة رنانة تختلط مع لحن القيثارة غير المرئي. إنها من حوريات البحر لهذه السيمفونية الغريبة، وموسيقاها جسر بين العوالم القادمة ، تجذب أوتار قلب الأحياء والأشباح. تتحدث أغنيتها عن أراضٍ ضائعة منذ زمن طويل، ومروج مشمسة وبحار مغطاة بالضباب، وعن الحب والخسارة، ورقصة الخلق والدمار التي لا تنتهي.

وذات فجر وعلى أقصى اليمين، أطل طفل بأجنحة فراشة يمسك بقوس، ويقدم طائرًا أزرق غير مرئي. يلمع ريش الطائر بلمعان قزحي، كأنه مخلوق من الخيال الخالص. تشكل نظرة الطفل البريئة، الواسعة والمليئة بالدهشة، تناقضًا صارخًا مع الألغاز المتاهة المحيطة به. يغني الطائر، الذي يقف على يد الطفل الممدودة، أغنية صامتة - لحن الحرية والتحليق، والأحلام .

ثم رأيت يرقد شبح على سرير، ويختلط جسده بالسماء الليلية. يبدو وكأنه نائم، أو ربما مستيقظ في بُعد آخر، وتتسرب أحلامه إلى العالم أدناه. حوله، تدور الأجرام السماوية، محاصرة في رقصة فالس لا نهاية لها. إنهم الحالمون والمُحْلوم بهم.

أمست جدران المنزل رقيقة، مجرد إشارات إلى الحدود، وكأن البناء نفسه يتأرجح بين الوجود والنسيان. ومن خلال نافذة كبيرة مقوسة، تمتد حديقة من النباتات والحيوانات الغريبة، مغمورة في توهج أخضر. تمتد أشجار الصنوبر بأغصان تشبه الأصابع الطويلة، تحتضن كائنات أثيرية - أشباح تبدو وكأنها تطفو في حالة من التأمل الأبدي. وتعود المرأة لتجلس تحت شجرة ظليلة ، ظهرها موجه لظهر المرآة ، وشكلها يندمج مع الخضرة. إنها جزء من الحديقة، متجذرة في غموضها.

لا يتقدم الزمن إلى الأمام بل يتجه إلى الداخل، كأنه أفعى عملاقة تلتهم ذيلها. يتحد الماضي والحاضر والمستقبل في لحظة واحدة غامضة. الهواء مملوء برائحة الأحلام المنسية والأسرار التي لم يتم الهمس بها، واللحظات التي لم تكن ولن تكون أبدًا. كل شيء هو رمز، شفرة في لغة غير منطوقة لا يفهمها إلا العقل الباطن.

أشارت بأصبعها إلي وقالت أيها المتطفل . يدعوك المنزل للتجول في قاعاته المتعرجة، والتحديق في أعماق الكرة، والاستماع إلى الموسيقى الصامتة، ولمس الأشياء غير الملموسة. إنه مكان يتلاشى فيه الواقع، ويصبح المستحيل ممكنًا، وحيث تتلاشى حدود الذات في اتساع الكون. لا يعد المنزل المقابل مجرد لوحة، بل هو بوابة إلى السريالية، مكان يمكن للروح أن تتجول فيه بحرية،

دون قيود قوانين العالم اليقظ.

0 التعليقات: