وجدت نفسي واقفاً أمام حراس الزمن. كان الهواء جافاً لكنه منعشاً، يحمل معه همسات قرون مضت. وبينما كنت أتطلع إلى التماثيل الضخمة، التي كانت وجوهها القاسية محفورة بهدوء لا يتأثر بالزمن، شعرت بثقل التاريخ يضغط على صدري وذهني. بدت التماثيل الضخمة، بأذرعها المتقاطعة في يقظة أبدية، وكأنها تتطلع إلى روحي، وكأنها تبحث عن أصداء قصص منسية منذ زمن بعيد.
كانت هذه التماثيل، التي كانت في عهود البائدة حراساً لحضارة قديمة، تقف في تناقض صارخ مع السماء الزرقاء الساطعة في سقف القصر. كانت عظمتها ملهمة للرهبة ومهينة في الوقت نفسه، تذكرنا بطبيعة الوجود البشري الزائلة. كان بإمكاني أن أشعر بدفء الشمس، لكن التماثيل بدت وكأنها لا تتأثر لا بالزمن ولا بالطقس، حيث كانت تقف شامخة وحازمة في مواجهة الرياح الفصلية. كانت الأنماط المعقدة على أغطية الرأس وخطوط الملابس تتحدث عن حرفية دقيقة وموقرة في نفس الوقت. كانت كل قماشة تحكي قصة، همس بها الناس في صمت هواء صحراء الشرم.
وقفت هناك،
مسافرًا في مساحة شاسعة من الزمن، أشعر بالضآلة تحت وجودهم الشامخ. وقد ألقت قبعتي
بظلالها على محياي، فحجبت عن عيني وهج الشمس، ولكن ليس عن النظرة الثاقبة للتماثيل
بجانبي. بدت عيونها، رغم أنها منحوتة من الحجر، حية بحكمة تتجاوز العصور. كانوا
شهودًا على صعود وسقوط السلالات، وانتصارات ومآسي حضارة ازدهرت ذات يوم على طول
نهر النيل. في سهرهم الصامت، احتفظوا بأسرار ألف حياة، أسرار مدفونة الآن تحت
الرمال.
وبينما كنت
واقفاً هناك، غمرني شعور غريب، وكأن ريح الصحراء تحمل معها جزءاً من الماضي.
فأغمضت عيني وتركت اللحظة تغمرني، متخيلاً الحياة الصاخبة التي كانت مزدهرة ذات
يوم في هذه الأرض القاحلة. وكدت أسمع همهمات الأصوات البعيدة، وإيقاعات الطبول،
وترانيم الكهنة وهم يؤدون طقوسهم المقدسة. ولم تكن التماثيل التي أمامي مجرد
حجارة؛ بل كانت بمثابة جسور لعالم مضى منذ زمن بعيد، عالم الآلهة والفراعنة،
والألغاز والأساطير.
في تلك اللحظة،
شعرت بارتباط عميق بالماضي، وكأنني خيط تائه في نسيج التاريخ المتشابك. كانت
الصحراء ممتدة بلا نهاية حولي، بحار من الرمال الذهبية تحت سماء زرقاء لامعة. كان
مكانًا من الخراب والجمال، ومنظرًا يبدو أنه يحمل وعدًا بالأسرار التي لم يتم
الكشف عنها بعد. شعرت بإحساس غريب، ووقفت في حضرة هؤلاء التماثيل الحراس القدامى،
وكأنني أتطفل على مكانهم المقدس.
لقد بدا
انعكاسي، الذي التقطته عدسة كاميرا صديقتي، غير ذي أهمية تقريبًا على خلفية هذه
التماثيل الضخمة. ومع ذلك، كان بمثابة تذكير بطبيعة وجودنا العابر، لحظة عابرة تم
التقاطها في التدفق الأبدي. بدت التماثيل، بنظراتها العنيدة، وكأنها تراقبني،
وكأنها تعترف بحضوري العابر. في صمتها الحجري، بدا الأمر كما لو كانت تقول:
"لقد شهدنا صعود الإمبراطوريات وسقوط الملوك. لقد شهدنا رحيل أرواح لا حصر
لها، ومع ذلك، فإننا باقين".
وعند غروب الشمس
، تحول الضوء، فألقى بظلال طويلة رقصت على وجوه التماثيل. واكتسبت الصحراء، التي
تغمرها الألوان الدافئة للغسق، ألوانا هادئة وغامضة تقريبًا. شعرت بالسلام وأنا
أقف هناك في الضوء الخافت، وكأن الصحراء نفسها تقدم نعمة صامتة. وبدت التماثيل،
التي خففت ملامحها بفعل الوهج الذهبي، وكأنها خيرة تقريبًا، وكأنها تقدم اعترافًا
صامتًا بوجودي.
في تلك اللحظة ،
شعرت بامتنان عميق لشرف الوقوف في مثل هذا المكان، والشهادة على الإرث الدائم
لحضارة تركت بصماتها على رمال الزمن. بدا أن الصحراء، بجمالها ، تحمل إجابات على
ألغاز الحياة والموت، والدورة الأبدية للخلق والدمار. شعرت بإحساس عميق بالارتباط
بالماضي، وبالأرواح التي لا تعد ولا تحصى التي سارت على هذه الأرض قبلي، تاركة
بصماتها في رمال الزمن.
وعندما استدرت
لأغادر المكان، ألقيت نظرة أخيرة على التماثيل، التي كانت وجوهها الآن مغطاة بظل
الشفق. كانت تقف
هناك، صامتة وصامدة، حراسًا لزمن مضى منذ زمن بعيد، ووجودها شهادة على القوة
الدائمة للإبداع البشري والسحر الخالد لأسرار العالم القديم. ابتعدت، حاملاً معي
أصداء تلك اللحظة، والهمسات الصامتة للصحراء، ونظرات التماثيل الخالدة، المحفورة
إلى الأبد في ذاكرتي.
في هدوء
الصحراء، وتحت امتداد السماء الشاسع، وجدت لحظة من الهدوء، لحظة من الاتصال
بالماضي والحاضر، لحظة تتجاوز الزمن. وبينما ابتعدت، شعرت بإحساس عميق بالسلام،
مدركًا أنني وجدت في هذا العالم الشاسع القديم مكانًا صغيرًا ولكنه عميق.
0 التعليقات:
إرسال تعليق