الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأحد، أغسطس 25، 2024

"فاكهة محرمة" نص سردي: عبده حقي


أقف أمام المرآة، لكنني لست انعكاسًا. قبعة بولر تجثم فوق رأسي، ومعطف أسود يبتلع هيئتي، لكن هذه مجرد تشظيات، ذاتي الحقيقية مستورة بالعبث. وجه مختبئ خلف فاكهة محرمة، تحوم وكأنها كوكب في مداره، تمازح، وتسخر، وكأنها تقول: "انظر عن كثب، لكنك لن ترى شيئًا".

لا أستطيع أن أرى ما وراء هذه الفاكهة المحرمة ، هذا الدخيل الأخضر الذي يخفي هويتي. الفاكهة المحرمة هي قناعي، ولكن هل هي قناع، أم أكثر من ذلك؟ لغز ملفوف بقشرة شمعية، مفارقة معلقة في الهواء. لونها الأخضر هو خضرة الحسد، حسد الغيب، المجهول. إنها معلقة هناك مثل سؤال بلا إجابة، سر يرفض الكشف عنه.

أشعر بثقلها، رغم أنها لا تزن شيئًا. إنها عبء الوجود، وحقيقة لا يمكن إدراكها. إن عيني، إذا كانت لي عيون، تتطلعان إلى الفراغ الذي تخلقه الفاكهة المحرمة. أنا مدرك للعالم من حولي، والبحر خلفي، والسماء أعلاه، والأفق الذي يطمس الحدود بين الأرض والسماء. ومع ذلك، فإن كل هذا بعيد، وغير ذي صلة، لأن نظري محاصر، ثابت إلى الأبد على الفاكهة التي تتدلى أمامي.

هذه ليست مجرد فاكهة ؛ إنها الثمرة المحرمة، والإغراء الذي لا طعم له، والرغبة التي لا يمكن تحقيقها. إنها فاكهة  حواء، لكنني لست آدم. أنا صدى كل إنسان، وظل فكرة، وبقايا حلم لم يتحقق قط. أنا هنا، لكنني لست هنا.

يتدفق الوقت من حولي، لكنني ثابت، متجمد في هذه السخافة. تتحطم الأمواج في المسافة، لكنها لا تصل إلي. تنجرف السحب ببطء فوقي، لكنها لا تحركني. أنا الكائن المعلق في الجدار، لكنني أشعر بنبض الحياة، وخفقان قلبي، والدم الذي يجري في عروقي. لكن هذه الفاكهة المحرمة، هذه الفاكهة الجهنمية، تحجب الإيقاع، وتشوه الضربة. أمد يدي، لكن يدي لا تتحرك. أحاول التحدث، لكن الكلمات تبتلعها الهاوية الخضراء.

لا مفر من هذا السجن الذي يجمع بين الجسد والفاكهة. أنا مقيد بهذه الصورة، أيقونة العبث. يراني العالم، لكنه لا يعرفني. أنا الرجل ذو الوجه الشبيه بالفاكهة المحرمة، الرجل الذي ليس رجلاً، اللغز الذي يمشي على الأرض. أتجول في شوارع ليست حقيقية، وأتجاوز الوجوه التي هي أقنعة، وأدخل المباني التي هي أصداف جوفاء. العالم مسرح، وأنا الممثل الذي نسي حواره، وفقد نصه، والذي يرتدي زيًا لا يناسبه.

الفاكهة المحرمة تسخر مني. إنها تعرف الحقيقة التي لا أستطيع أن أتحدث عنها. إنها تحمل مفتاح اللغز الذي لا أستطيع حله. لو كان بإمكاني إزالتها، وتقشيرها مثل طبقات البصل، لكن ماذا سأجد تحتها؟ هل سيكون هناك لا شيء، فراغ حيث يجب أن يكون وجهي؟ أم سيكون هناك فاكهة  أخرى، وأخرى، انحدار لا نهائي من الفاكهة التي لا تؤدي إلى أي مكان؟

يناديني البحر، وتهمس الأمواج باسمي، ولكنني لا أجيب. لا أستطيع، لأن صوتي محاصر خلف الفاكهة المحرمة. السماء تمتد فوقي، لا نهائية وغير مبالية، لوحة من الاحتمالات التي لا أستطيع الوصول إليها. أنا متجذر في هذه البقعة، شجرة لا تثمر، رجل لا وجه له. أنا ابن الإنسان، ابن المجهول، ابن حلم يتلاشى عند الاستيقاظ.

الفاكهة المحرمة معلقة هناك، تسخر مني بصمتها. إنها تعلم أنني عاجز، وأنني لست أكثر من مجرد صورة، أو بناء ذهني. ولكن عقل من؟ هل أنا من صنع فنان، أو من نسج الخيال، أم أنني حقيقي؟ هل يهم؟ لا تهتم الفاكهة المحرمة. إنها تطفو أمامي، حارسة للعبث، وحارسة للحقيقة التي تكمن خارج نطاق إدراكي.

أريد أن أمد يدي إلى الفاكهة المحرمة، وأن ألتقطها من مكانها المرتفع، وأن ألقيها في البحر، ولكنني متجمد في هذه اللحظة الأبدية. الفاكهة المحرمة هي لعنتي، ورفيقتي، ومعذبتي. إنها الجدار الذي يفصلني عن العالم، وعن نفسي. إنها القناع الذي لا أستطيع إزالته، والحقيقة التي لا أستطيع رؤيتها.

أمشي ولكنني لا أتحرك. أتكلم ولكنني لا أسمع. أنا هنا ولكنني لست هنا. العالم يدور حولي ولكنني النقطة الثابتة، عين العاصفة. الفاكهة المحرمة تبقى ثابتة، لا تتغير، لا تتزعزع، ثابتة في الفوضى.

أنا الإنسان الذي ليس . أنا الفكرة التي تتريث على حافة الوعي، والحلم الذي يتلاشى عند الفجر، والانعكاس الذي يحدق من الهاوية. أنا لا شيء، وأنا كل شيء. أنا الفاكهة المحرمة، والفاكهة المحرمة هي أنا.

وهكذا أقف، محاصرًا إلى الأبد في هذا العبث، رجل بلا وجه، وجه بلا إنسان. تظل الفاكهة المحرمة، ويهمس البحر، وتلوح السماء، وأنا ضائع في الغموض الذي يشكل وجودي. أنا ابن الإنسان، ابن السريالية، ابن سؤال لا إجابة له.

أنا الرجل الذي لا يمكن رؤيته، الرجل الذي لا يمكن معرفته. أنا اللغز الذي لا يمكن حله، اللغز الذي لا يمكن تفسيره. أنا الفاكهة المحرمة، والفاكهة المحرمة هي أنا، ومعًا، نحن الصمت الذي يتحدث كثيرًا، والفراغ الممتلئ، والمفارقة التي تشكل الواقع.

أنا لست أكثر من مجرد فكرة، صورة عابرة، لحظة في الزمن ليس لها معنى، ولا هدف، ولا نهاية. أنا ابن الإنسان، ابن لا إنسان، ابن فاكهة  لم تسقط من الشجرة.

0 التعليقات: