الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأحد، أغسطس 25، 2024

"عطش الوقت" نص سردي عبده حقي


في صحراء الأحلام الدافئة، حيث يقطر الوقت مثل العسل من خلية مكسورة، أتجول، مقيدًا بسراب ساعة عليلة. تتوهج الشمس، الشبح البعيد، مثل عين مفككة في كرة زجاجية للسماء، تتلألأ على بقايا الأوقات الملتوية التي تتدلى وجوهها، متعبة ومنهزمة، مثل بتلات زهرة منسية.

هنا، في هذه الأرض حيث تفقد الذاكرة شكلها، أسير بين بقايا لحظات مضت منذ زمن بعيد، وقد خففت أيدي حارس الوقت غير المبالٍ من حدة حوافها. الأرض تحت قدمي ليست رملاً ولا تراباً، بل نسيجا سائلا منسوج من تنهدات الأبدية، وأنا مجرد خيط عالق في أمواجه المتموجة.

السماء مرآة واسعة، لا تعكس العالم من حولنا، بل تعكس رغبات الروح العميقة، تلك الهمسات العابرة التي تفلت من قبضة العقل. وفي هذا الانعكاس، أرى أغصان شجرة قاحلة، تمتد مثل أصابع رجل يحتضر، يائسًا من الإمساك بالضوء الخافت. وعلى أحد هذه الأغصان، يتدلى وقت متراخي، وعقاربه ثابتة، متجمدة في قبضة لحظة نسيت المضي قدمًا.

أقترب من هذه الشجرة الأثرية، ولحاؤها متشقق مثل شفتي عاشق جافتين طال صمتهما. إن وجه الساعة المشوه والممتد هو بمثابة قناع يخفي الطبيعة الحقيقية للوقت، ذلك المخادع العظيم الذي يلعب بأوتار قلوبنا، ويقودنا عبر متاهة من الساعات والأيام التي تتلوى وتدور على نفسها. أمد يدي لألمسها، وبينما تلمس أصابعي سطحها، أشعر بنبض الدقائق المنسية، كل منها صدى شبحي لحياة لم تعشها.

الهواء مملوء برائحة التعفن، لكن رائحة تعفن اللحم ليست هي التي تملأ رئتي. لا، إنها رائحة الذكريات التي تُركت لتتعفن، والأحلام التي تُركت في الفراغ. ومع ذلك، في هذا الخراب، هناك جمال - جمال لا يكمن في كمال الشكل، بل في عدم كمال الوجود، في الطريقة التي يذوب بها الوقت وينحني، ويكشف عن الحقائق الخفية التي تكمن تحت سطح وعينا.

مخلوق يتلألأ محيطه مثل حواف السراب. يتحرك برشاقة فكرة منسية، وجوده تذكير بطبيعة الواقع العابرة. إنه رجل ووحش في نفس الوقت، وهم ولد من أعمق أعماق العقل، وبينما يقترب، أرى أن عينيه ليستا عيونًا على الإطلاق، بل فراغات فارغة، بوابات إلى بُعد لا وجود للزمن فيه.

هذا المخلوق، هذا التجسيد ، يتحدث دون كلمات، صوته عبارة عن اهتزاز يتردد صداه عميقًا في عظامي. إنه يخبرني عن عبث التشبث بالماضي، وعن حماقة محاولة التمسك باللحظات التي تتسرب من بين أصابعنا مثل حبات الرمل. إنه يضحك على عبثية حاجتنا إلى البنية، والحدود الصارمة للساعات والدقائق، وفي هذا الضحك، أسمع حقيقة الوجود: أن الوقت ليس سوى وهم، وبناء للعقل، وأن الحرية الحقيقية تكمن في حل حدوده.

يتحول المشهد ويتغير، والأرض الصلبة التي كانت ذات يوم بحر من الذكريات، تتدفق وتتدفق مع تيارات الفكر. أطفو في هذا المحيط من الزمن، جسدي بلا وزن، وعقلي حر لاستكشاف أعماق العقل الباطن. وفي هذه الأعماق، أجد بقايا الأحلام التي نسيتها منذ زمن طويل، شظاياها متناثرة مثل قطع المرآة المحطمة.

أرى وجه امرأة، ملامحها مشوشة وكأنها تُرى من خلال حجاب حلم. إنها مألوفة وغير معروفة في الوقت نفسه، إنها انعكاس لكل حب ضائع وموجود. عيناها، بركتان من الذهب السائل، تحدق في عيني، وأشعر بجاذبية نظراتها، تجذبني إلى عالم حيث الوقت مجرد ذكرى بعيدة. تمد يدها إلي، ويدها عبارة عن شبكة رقيقة من الضوء، وبينما تلامس أصابعنا، يملؤني شعور بالشوق، والشوق إلى وقت لم يكن موجودًا أبدًا.

نرقص معًا في هذا الفضاء الخالد، وأجسادنا متشابكة في إيقاع يتحدى دقات الساعة. يطن الهواء من حولنا بطاقة الإبداع، وأشعر بنبض الحياة في كل نفس نتنفسه. ولكن بينما نتحرك، أبدأ في الشعور بثقل اللحظة، وحتمية نهايتها. أعلم أن هذه الرقصة لا يمكن أن تستمر، وأن الوقت سوف يستعيد قبضته قريبًا، وأننا سوف ننفصل عن بعضنا البعض، وكل منا يعود إلى واقعه المنفصل.

تبدأ الأرض تحتنا في التصلب، ويتجمد بحر الذكريات السائل في مشهد الصحراء المألوف. وتستعيد الساعات، بعد أن ذابت وتشوهت، شكلها، وتدق عقاربها مرة أخرى بإيقاعات ثابتة ومدروسة. وتومض الشمس، تلك العين المفككة، ثم تتلاشى، ليحل محلها ضوء القمر البارد، وأبقى واقفًا وحدي، وبقايا الرقصة تتراكم في الهواء مثل رائحة زهرة ذابلة.

مع حلول الليل، أشعر بثقل الزمن يثقل كاهلي، ويذكرني بزوال كل شيء. لا يزال المشهد من حولي ثابتًا، متجمدًا في قبضة لحظة مضت، وأعلم أنني يجب أن أمضي قدمًا، وأنني لا أستطيع البقاء في هذا المكان حيث لا تزال الذكريات باقية، حيث يرفض الزمن أن يتركني.

أستدير لأغادر، ولكنني أثناء ذلك ألمح شيئًا في زاوية عيني ـ ظلًا، وميضًا من الحركة في المسافة. أتوقف، وقلبي ينبض بسرعة، وبينما أحاول أن أرى، أدرك أنه ليس ظلًا على الإطلاق، بل هو شخصية، نفس المخلوق الذي تحدث إلي من قبل. يقف على حافة الأفق، وشكله يتلألأ في ضوء القمر، وأعلم أنه ينتظرني، وأنه سيتبعني أينما ذهبت.

أخطو خطوة إلى الأمام، فتتحرك الأرض تحت قدمي، ويذوب المشهد مرة أخرى في سيولة الأحلام. وتبدأ الساعات، التي أصبحت الآن مجرد صدى لصورتها السابقة، في الدق بهدوء في المسافة، لتذكرني بأن الوقت لا يتوقف أبدًا، وأنه دائمًا في حركة، حتى في اللحظات التي يبدو فيها ثابتًا. وبينما أسير، أشعر بوجود المخلوق بجانبي، ورفقته الصامتة تشكل راحة في اتساع السريالية.

معًا، نسافر عبر هذه الأرض المليئة بالذكريات المذابة، حيث يقطر الوقت مثل العسل وتذوب الأحلام في الواقع. ورغم أنني أعلم أنني لن أفلت أبدًا من قبضة الزمن، إلا أنني أجد العزاء في معرفة أنني لست وحدي، وأن هناك جمالًا في عدم ثبات الوجود، وأنه حتى في مواجهة العبث، هناك حقيقة تتجاوز حدود الواقع.

ففي ثبات الذاكرة نجد ثبات الذات، والحضور الدائم للروح في عالم يتغير إلى الأبد، ويذوب إلى الأبد في السريالية.

0 التعليقات: