أستيقظ في منحنى وتر، لا قبل ولا بعد. الصحراء، مثل أنفاس الكثبان الرملية المنسية، لا تحمل أي ذكرى للرياح التي تداعب بشرتي. أنا صدى أجوف للحن، فراغ على شكل عود، والشمس ترسمني بملامح من المغرة والجمر. أسير على طول خيوط الصوت، حيث تتدلى التمور والأوتار، ناضجة للقطف، وحلاوتها مخلوطة ببهار ألف لسان منسي.
في هذه الأرض التي تكسوها الرمال والخيوط، لست اليد التي تنزع ولا اليد التي تسكت. السماء تتكشف فوقي، كنسيج من الليل والنهار، خيطًا تلو الآخر، وكأن السماوات ذاتها ليست أكثر من شعر مضفر لإلهة منسية. أمد يدي ممسكًا بحواف السحب، فقط لأجدها تنزلق بعيدًا، وتحل محلها خيوط وجودي - لا نهاية لها، ملتوية، ومتوترة بتوتر الرياح غير المرئية.
تتكئ قيثارة، أو
شيء ما يشبهها، على الكثبان الرملية، وقد تشوه شكلها بفعل الحرارة، فتنحني مثل
عمود فقري لمخطوطة قديمة تعرضت لعوامل الطقس في أزمنة طويلة. كل نغمة، خطوة في
رقصة لم أتعلمها قط، كل وتر، اسم لا أستطيع نطقه. تهتز لوحة الصوت بنبض ليس نبضي
بل نبض الأرض تحتي، الرمال تتحرك، وتهمس بأسرار بلغة أقدم من أي كلمة عرفتها على
الإطلاق.
أجد نفسي في
خيمة، جدرانها قائمة من الكتان مخيطة بأبيات من قصائد منسية. لقد تلاشى الحبر منذ
فترة طويلة، لكن الكلمات بقيت، محفورة في نسيج الهواء. في الداخل، تتنفس القيثارة
- الذي أصبح الآن مخلوقًا من الأوتار والخشب - وأوتارها تطن بحياة خاصة بها. أمد
يدي لألمسها، والصوت الذي تصدره ليس موسيقى، بل صرخة ألف طائر، كل نغمة ريشة، وكل
وتر خفقة جناح.
تذوب جدران
الخيمة، وتتركني واقفًا في واحة لم تكن موجودة قط. لا يعكس الماء سوى صوت أفكاري،
يتردد صدى أغاني لم تكن موجودة قط. أشجار النخيل، التي تلتوي سعفها على شكل حروف
مجهولة، تكتب كلمات لا أستطيع قراءتها، وتضيع معانيها في الصمت الذي يلي ذلك.
الشمس تغوص، أو
ما تبقى منها، في الأفق، كقرص من الذهب المنصهر يقطر في الرمال، ويتصلب في أوتار
تمتد نحو السماء، لتشكل قيثارة تعزف بنفسها. النغمات متنافرة، صخب من الضوء والظل،
وكأن السماء نفسها تتشقق، لتكشف عن الفراغ تحتها. أستمع، بجلدي، كل نغمة لمسة،
مداعبة، صفعة.
أسير نحو القيثارة،
المعلق الآن في الهواء، وأوتارها منسوجة في الكون. أقرع وترًا، فيصدر عنه صوت
ضحكة، أو نشيج، أو صرخة. تتحرك الرمال تحتي، وتشكل أنماطًا تتلاشى بسرعة عند
ظهورها، مثل الأفكار التي تطير في ذهني، ولا تبقى أبدًا لفترة كافية لأتمكن من
الإمساك بها.
الهواء مفعم بنكهة
التوابل - القرفة والزعفران والهيل - مع كل استنشاق، أشعر بطعم شيء مألوف وغريب في
نفس الوقت. أتنفس بعمق، ويتغير العالم من حولي. تتحول الكثبان الرملية إلى أمواج، والقيثارة
إلى قارب، وأنا تائه، ضائع في بحر من الأصوات، والنجوم فوقي تتلألأ في الوقت
المناسب بإيقاع لا أستطيع سماعه ولكن يمكنني الشعور به فقط.
أغمض عيني،
فيذوب العالم في سيمفونية من الألوان والأصوات، كل نغمة هي ضربة فرشاة، وكل وتر هو
دفقة من الطلاء على قماش ذهني. تهتز القيثارة، التي أصبحت الآن جزءًا مني، برنين
يملأ كياني بالكامل، وتتشابك أوتارها مع أفكاري وذكرياتي وأحلامي. أنا الموسيقى
والصوت والصمت.
ينجرف القارب
إلى حافة العالم، حيث ينسكب البحر في الفراغ، ويتدفق شلال من الصوت إلى الهاوية.
أتكئ على الحافة، وأنظر إلى العدم، وأرى كل شيء - النجوم، والكثبان الرملية،
والخيمة، والقيثارة - ينعكس عليّ، مشوهًا، ومجزأً، لكنه موجود بلا شك.
أمد يدي إلى
الأمام، فتمتد أوتار القيثارة، فتتحول إلى خيوط من الضوء تلتف حول أصابعي، فتسحبني
إلى الفراغ. أسقط، أو ربما أطير، عبر الظلام، وتهتز الأوتار بصوت جميل ومرعب في
الوقت نفسه، سيمفونية من الفوضى والنظام، الخلق والدمار.
أنا النغمة التي
لا تنتهي أبدًا، والوتر الذي يتردد صداه عبر العصور، والصوت الذي يتردد صداه في
الصمت. أنا القيثارة، والأوتار، والموسيقى. أنا الريح التي تعزف على الكثبان
الرملية، والشمس التي تذيب الأفق، والنجوم التي تتلألأ في الوقت المناسب مع إيقاع
الكون. أنا كل شيء ولا شيء، في آن واحد.
ثم فجأة، كما
بدأ الأمر، تتوقف الموسيقى. تصمت الأوتار، وتذوب القيثارة في الرمال، وأجد نفسي
واقفًا وحدي في الصحراء، والصمت يضغط عليّ مثل ثقل. أنظر إلى السماء، التي أصبحت
الآن سوداء داكنة، ولا أرى شيئًا سوى الفراغ، الفارغ الذي لا نهاية له.
أنا وحيد في هذه
القفار . أنا الصمت، الفراغ، العدم. أنا النغمة التي لم تكن موجودة أبدًا، الوتر
الذي لم يعزف أبدًا، الصوت الذي لم يوجد أبدًا. أنا الصحراء، الكثبان الرملية،
الريح. أنا كل شيء ولا شيء في نفس الوقت.
0 التعليقات:
إرسال تعليق