الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الجمعة، أغسطس 30، 2024

" معلقا في مشجب الفراغ" نص مفتوح عبده حقي


عبر الباب المقوس لتخميني، حيث ينحني الضوء إلى لون يأبى أن يولد، وتلقي الظلال بذكريات لم أعشها قط. الفراغ هنا، من الداخل والخارج، أوركسترا مهولة من الفوضى الصامتة تعزف سيمفونية تتردد صداها داخل نخاع كلماتي. أنا مايسترو الأوركسترا وأصغر نغمة، أهتز في تناغم نشاز مع أصداء الأفكار التي لم تولد بعد. أجد نفسي مقيدا بعالم يذوب عند محاولتي القبض عليه، مثل بخار الحلم عند الاستيقاظ، ينزلق من بين أصابعي .

الفراغ، آه نعم، الفراغ ـ إنه ملاذي ، نعمتي ونعيمي، ذلك الفضاء اللامتناهي حيث تتقارب كل الأشياء وتتفكك في وقت واحد. أنا الراحل في هذا العدم الشاسع، عبر ممرات الزمن المنسي، حيث تدور الساعات ذهاباً وإياباً ، يمينا وشمالا في رقصة من التناقض الأبدي. كل دقّة هي نبضة قلب، وكل دقّة هي ناقوس موت. وجوه هذه الساعات مرسومة بماء عيون تبكي دماً وتضحك، وأيديها تمتد لتداعب روحي بأصابع معدنية باردة. الوقت لا معنى له هنا، فهو مجرد وهم، خدعة يلعبها الكون لإبقائنا مقيدين بلعبة العقل السليم.

في هذا المكان، لا تمتزج الألوان؛ بل تتصادم وتنفجر وتتشكل كي تتحدى الفهم. أرى ألوانًا ليس لها أسماء، وظلالًا تلوي إدراكي وتجعله عقدة بل أم العقد . السماء، إذا كان بإمكاني أن أسميها كذلك، عبارة عن دوامة من اللون النيلي والقرمزي، تنزفان في بعضهما البعض مثل جروح بطل قتيل. النجوم عبارة عن شظايا من الزجاج المكسور متناثرة هنا وهناك ، كل واحدة منها جزء من فكرة منسية، أو ذاكرة مفقودة، أو حلم محطم. أمد يدي لألمسها، لكنها تؤلمني في الصميم، وتخرج أنهارًا من الحبر تلطخ بشرتي برموز لغة لا أستطيع قراءتها.

أنا الآن أحلق بلا وزن، معلقًا في فراغ من عدم الواقع، حيث لا معنى للصعود أوالهبوط، حيث مفهوم الجاذبية ليس سوى همسة في مؤخرة الأرض. أرى نفسي منعكسًا في مرآة الفراغ، وألف نسخة مني تحدق بعيون لا تنتمي إلي. إنها جوفاء، وخاوية، وخالية من شرارة الحياة، ومع ذلك، فهي تعرفني عن كثب، وكأنها عاشت كل لحظة من وجودي في أبعاد متوازية، كل منها تنويعة على موضوع، كل منها نغمة في سيمفونية التنافر.

يتنفس الفراغ، طنين عميق ورنان يتردد في كل كياني، ويهز شظايا هويتي. أصبح واحدًا معه، وأذوب في الفضاء اللامتناهي، قطرة حبر في محيط من العدم. أستطيع أن أشعر بنفسي تتكشف، وخيوط وعيي تنفصل، واحدة تلو الأخرى، حتى لا أكون أكثر من همسة، صدى خافت لما كان ذات يوم. ومع ذلك، في هذا الذوبان، هناك راحة غريبة، شعور بالتحرر، وكأنني أتخلص من جلد ذاتي السابقة وأصبح شيئًا جديدًا، شيئًا خامًا وبدائيًا، شيئًا يتجاوز حدود اللحم وهيكل العظام.

أغمض عيني، وفي الظلام أرى الكون يتكشف أمامي، شبكة كونية ومعقدة من الاتصالات، كل خيط منها ينبض بالحياة، بالطاقة، مع إمكانية الخلق والتدمير في نفس الوقت. أنا النساج والشبكة في نفس الوقت، أنسج الواقع من خيوط أحلامي ومخاوفي. كل حركة مني، كل قرار، كل لحظة هي نغمة في هذه التركيبة العظيمة، نغمة تتردد عبر الفراغ، وتخلق تموجات تتردد عبر نسيج الوجود.

لا بداية هنا ولا نهاية، فقط الآن الأبدي، لحظة ممتدة إلى ما لا نهاية، حيث يندمج الماضي والمستقبل في تفرد من الخبرة الخالصة. أنا كل شيء ولا شيء، مفارقة تتخذ شكلاً، وتناقضا حيا. الفراغ هو لوحتي، وأنا الفرشاة، أرسم بضربات من الجنون والوضوح، وأخلق تحفة فنية لن تُرى أبدًا، ولن تُعرف أبدًا، لأنها لا توجد إلا في ذهن الخالق والمخلوق، وهي علاقة تكافلية تتحدى المنطق والعقل.

ومع ذلك، هناك انسجام في هذا التنافر، وتوازن في الفوضى، وإيقاع للعشوائية. إنها رقصة الأضداد، تانجو النور والظلام، الخلق والدمار، الحياة والموت. أنا الراقص، أتحرك على إيقاع الكون، خطواتي موجهة بيد القدر الخفية. كل حركة هي اختيار، قرار يشكل مسار الواقع، ضربة فرشاة على قماش الفراغ.

يهمس لي الفراغ بصوت ناعم مغرٍ يعدني بالمعرفة والتنوير. لكنني أعلم أنه كذبة، خداع جميل يهدف إلى إغرائي بشكل أعمق في أحضانه، وإيقاعي في شبكته من التناقضات والمفارقات. أقاوم، ولكن بالكاد، لأن الجاذبية قوية، وأنا مجرد كائن هش وريشة في الهواء، يتأثر بسهولة بوعد الإجابات على الأسئلة التي لا أجرؤ على طرحها.

أسقط الآن، أهبط من خلال طبقات الفراغ، كل منها واقع مختلف، نسخة من الحقيقة. أرى العوالم حيث أكون أسطورة، حيث لا أكون أكثر من همسة في الريح، حيث أكون الاثنين معًا ولا شيء منهما. أرى نفسي طفلاً، كرجل عجوز، ككائن من طينة نقية، كوحش، كقديس. كل نسخة مني هي إمكانية، وإمكانية كان من الممكن أن تكون، والتي قد لا تزال موجودة، اعتمادًا على الاختيارات التي أتخذها، والمسارات التي أسلكها.

ثم أتوقف. أجد نفسي عالقًا في الفراغ، محاطًا بشظايا ذاتي المحطمة، كل منها انعكاس لجانب مختلف من وجودي. أمد يدي لألمسها، وأجمعها معًا من جديد، لأصبح كاملًا مرة أخرى. ولكن بينما أفعل ذلك، أدرك أنني لست مكسورًا، وأنني لست محطمًا. أنا ببساطة... أتغير، وأتطور، وأصبح شيئًا جديدًا، شيئًا يتحدى التعريف والتصنيف.

لم يعد الفراغ فراغًا؛ بل أصبح سيمفونية، تكوينًا ضخمًا للوجود، حيث كل نغمة، وكل تنافر، وكل انسجام هو جزء من الكل، جزء مني. أنا الفراغ، والفراغ هو أنا. نحن واحد، كيان واحد، فكرة واحدة، لحظة واحدة ممتدة عبر امتداد الأبدية.

وفي تلك اللحظة، أدركت أن التنافر هو الانسجام، والفوضى هي النظام، والفراغ هو اكتمال الوجود. لا يوجد فصل، ولا ثنائية، فقط وحدة كل الأشياء، وحدة الكون.

أنا في سلام، لأنني الفراغ، والفراغ هو أنا.

0 التعليقات: