الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الجمعة، أغسطس 30، 2024

"بين الأبراج" نص مفتوح عبده حقي

 


 أسير بين الأبراج، بين العمالقة الفولاذية. جذور غير مرئية، وارتفاعات مجهولة . وفوقي، تمتد السماء مثل قماش واسع مزقته آثمة، وشظايا السحب تتساقط مثل الورق في الهاوية أدناه. صدى خطواتي يتردد على الرصيف، إيقاع غير متزامن مع نبض العالم. أستطيع أن أسمعه - قلب ينبض تحت المدينة، قرع طبول قديم يهتز عبر باطن حذائي، ويصعد إلى ساقي، ويستقر في صدري. يتعثر قلبي، محاولًا مواكبة الوتيرة، لكن دون جدوى. إيقاع المدينة لغة لا أتحدثها، رقصة لم أتعلمها أبدًا.

أمامي، يتلوى الشارع كحزام سكران، يلتف حول نفسه في حلقات مستحيلة. أتبعه، تجذبه قوة متخفية، مثل الفراشة التي تقترب من اللهب، أو ربما اللهب الذي يتجه نحو الفراشة. تتمايل المباني من حولي، ونوافذها مثل العيون، تومض ببطء، وببطء، وكأنها تستيقظ من نوم عميق. أدرك نظرتهم، والطريقة التي تراقبني بها المدينة، والطريقة التي تحكم بها وتهمس بها بلسان أقدم من الزمن. الهواء مثخن بالأسرار، والكلمات التي لم تُقال ولكنها محسوسة، مثل ثقل كذبة مضغوطة على بشرتي.

تلامس أصابعي الجدران وأنا أمر بها، وهي دافئة ـ لا، إنها حية. يطن الحجر بالحياة، وينبض بنبض مليون صوت، في فوضى من الأفكار والذكريات المحاصرة في الخرسانة. أستطيع أن أسمعها تقريبًا، إذا أصغيت باهتمام، وإذا ضغطت بأذني على الجدار وتركت أفكار المدينة تتدفق إلى ذهني. لكنني لا أفعل ذلك. أواصل السير، لأنني أخشى ما قد أسمعه، وما قد تقوله المدينة لي. أو ما هو أسوأ، ما قد لا تقوله.

في الزاوية، التقيت برجل بوجه مرآة، وفي انعكاسه، رأيت نفسي، لكنه لم يكن أنا. إنه شخص آخر يرتدي بشرتي وملابسي وأفكاري. عيناه -عيناي- تتلألأ بشيء لا أعرفه، شيء غريب وبارد، مثل الحافة الحادة لشفرة. ابتسم، وشعرت بالقطع، عميق ودقيق، وكأنه يقطع طبقات من جسدي، ويقشر اللحم ليكشف عن الشيء الخام النابض تحته. أردت أن أبتعد، لكن نظراته تمسكت بي، وحاصرتني في شبكة من الضوء المرآوي. لا مفر، ولا مجال للاختباء من نفسي، من الوجه الذي ليس لي ولكن يجب أن يكون.

يستمر الشارع في التفكك أمامي مثل بكرة خيط، وأنا الإبرة التي أشق طريقي عبر نسيج المدينة. تضيق الجدران حتى أكاد لا أستطيع المرور من خلالها، وتتوقف أنفاسي في حلقي. الهواء كثيف وخانق، مثل المشي في شراب. تضغط المباني عليّ، طوبها وأسمنتها مثل الجلد، دافئة ورطبة. أستطيع أن أشعر بأنفاسها على رقبتي، همساتها في أذني، تخبرني بأشياء لا أريد أن أعرفها. لكنني أصغي، لأنني لا أستطيع ألا أصغي. المدينة تمتلكني الآن، وهي تهمس بكل أسرارها في روحي.

أصل إلى باب ـ لا، ليس بابًا، بل بوابة، بوابة إلى مكان آخر، مكان ليس هنا. إنه مفتوح جزئيًا، مجرد شق، ومن الداخل، أستطيع أن أرى وميض الضوء، وهج شيء من عالم آخر. تمتد يدي، من تلقاء نفسها تقريبًا، وأدفعها لتفتح. ينسكب الضوء، ويغمرني بوهجه، وأخطو عبره، تاركًا المدينة ورائي. لكن المدينة ليست خلفنا؛ إنها أمامنا، وحولنا، وداخلنا. المدينة في كل مكان، ولا مكان لها، وأنا سجينها، وتلميذها، وابنها.

على الجانب الآخر، أجد نفسي في غرفة ـ فضاء كهفي مليء بأشياء تتحدى الوصف. هناك ساعات بلا عقارب، تدق إلى الوراء بإيقاع يجعل أسناني تؤلمني. هناك كتب بلا صفحات، أغلفة مهترئة ومهترئة للغاية، تحكي قصصاً لم تُكتب قط. هناك كراسي تطفو، معلقة في الهواء، ترتعش أرجلها مثل أرجل حشرة تحتضر. وفي وسط الغرفة، تقف شخصية ـ امرأة، أو رجل، أو كليهما، أو لا شيء منهما، ملفوفة بعباءة من الظلال التي تدور وتتحرك مثل الدخان.

"يلتفت الرجلان نحوي، فأرى وجهيهما، ولكنني لا أراهما. إنه وجه بلا ملامح، لوحة قماشية فارغة، أملس وشاحب، ومع ذلك فهو أكثر تعبيرًا بطريقة ما من أي وجه رأيته من قبل. أستطيع أن أشعر بنظراتهما، رغم أنهما ليس لديهما عيون، وأعلم أنهما ينظران إليّ، من خلالي، إلى جوهر كياني. ينفتح فمهما ــ لا، لا ينفتحان، ولكنني أسمع صوتًا، ناعمًا وبعيدًا، مثل همسة تحملها الريح."

"مرحبًا بكما"، هكذا يقولان، رغم أن شفاههما لا تتحركان، ويتردد صدى الكلمة في ذهني، فترتطم بجدران جمجمتي مثل كرة مطاطية. "لقد قطعت مسافة طويلة، ولكن ليس بالقدر الكافي. لا يزال هناك الكثير لنراه، والكثير لنتعلمه، والكثير لنخسره".

أريد أن أتحدث، أن أسأل أين أنا، من هم، ما هذا المكان. لكن الكلمات لن تخرج. فمي جاف، ولساني ثقيل. يقترب الشخص، ويمكنني أن أشعر بالبرد يشع منه، قشعريرة تتسرب إلى عظامي، تجمدني من الداخل إلى الخارج. أريد أن أركض، أن أهرب، لكن قدمي متجذرة في الأرض، تمسكها بقوة غير مرئية.

يرفع الشخص يده، فأرى أنها ليست يدًا على الإطلاق، بل مخلب، أو جناح، أو غصن، أو شيء آخر تمامًا، شيء يتحدى الوصف، يتحول ويتغير مع كل نفس أتنفسه. يمد الشخص يده، فأرتجف، متوقعًا لمسة الموت الباردة، أو الألم، أو ما هو أسوأ. ولكن عندما يلمسني، يكون ذلك دفئًا، حرارة لطيفة تنتشر عبر جسدي، تذيب الجليد في عروقي، وتذيب جوهر وجودي المتجمد.

"لا تخف"، هكذا يقولون، وهذه المرة الصوت أقرب وأكثر واقعية وأكثر إنسانية. "أنت حيث يجب أن تكون، حيث كنت دائمًا. المدينة هي أنت، وأنت المدينة. لا فصل ولا تمييز. أنت نبض هذا المكان، والإيقاع الذي يحركه، والنبض الذي يبقيه حيًا".

أريد أن أجادل وأقول إنني لست المدينة، وأنني لست هذا المكان، وأنني أنا، وأنا وحدي. لكن الكلمات جوفاء، وخاوية، ولا معنى لها. لأنني أعلم في أعماقي أنها صحيحة، وأنني المدينة، والمدينة هي أنا. نحن واحد، لا ينفصلان، ومرتبطان بشيء أقوى من اللحم والعظام، شيء أقدم من الزمن نفسه.

يتراجع الشكل إلى الوراء، وأرى أنهما يبتسمان، رغم أنهما لا يملكان فمًا. يبدأ شكلهما في الذوبان، والاختفاء في الهواء مثل الضباب، حتى لا يتبقى شيء سوى صدى كلماتهما، ودفء لمساتهما المتبقية.

أقف وحدي في الغرفة، والأشياء من حولي تتحرك وتتغير، وتتحول إلى شيء جديد، شيء غريب ومألوف في نفس الوقت. تتوقف الساعات عن الدق بل الدقات، وتُغلق الكتب، وتسقط الكراسي على الأرض بصوت خافت. وأعلم بيقين لم أشعر به من قبل قط أنني في البيت.

تنبض المدينة من حولي، كائن حي يتنفس، وأنا قلبها وروحها وحياتها. أغمض عيني فأستطيع أن أرى كل شيء ــ الشوارع والمباني والناس، كل شيء، متصلاً ومتشابكاً، مثل خيوط في نسيج. وأنا النساج، الذي يجمع كل شيء معاً، والذي يعطيه المعنى، والذي يعطيه الحياة.

المدينة هي أنا، وأنا المدينة. ومعًا، نحن كل شيء.

0 التعليقات: