الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الجمعة، أغسطس 30، 2024

"عجوز فوق الأنقاض" نص سردي : عبده حقي


في الأرض حيث نسيت الشمس أن تشرق، حيث تتعانق الظلال بالأسلاك الشائكة، وحيث يمر الوقت عبر أنقاض كانت ذات يوم حلمًا، يجلس العجوز. بقامة عبارة عن زيتونة قديمة، ملتوية برياح الوقت، متجذرة في تربة تأبى البكاء.

يتكئ على عصاه، شاهد صامت، غصن الزيتون الذي قاده ذات يوم عبر البساتين التي أضحت

ممزقة ومحترقة. أنفاسه تنهيدة ألف جد وجد ، تنبعث إلى السماء مثل سرب من الطيور التي نسيت طريق العودة إلى الأعشاش.

خلفه، يهمس الركام بالخسارات، لهجة من الحجارة المكسورة والفولاذ الملتوي. كل جزء منها عبارة عن مقطع من قصيدة لا يجرؤ طائر على النطق بها.

الجدران، العظام المكسورة الآن، تتلو الأبيات بصوت المنسيين، وأصداؤها عالقة في حنجرة التاريخ.

يطأطئ رأسه كمئذنة وحيدة في صحراء اليأس، يصلي إلى شهيد محفور اسمه في التراب، ووجوده هو الصمت الذي يملأ الفراغ الذي تتركه صلوات الغائب .

لو استطاعت دموعه أن تسقط، لحفرت نهرا في الصخرة ، لكن عينيه جافتان، بئرًا رأت الكثير ولا

تستطيع أن تبكي على نفسها.

الأرض تحت قدميه عبارة عن خريطة لكل الأماكن التي لن يستطيع العودة إليها اليوم ، حدودها مرسومة بالرصاص والدم. يرسمها برأس عصاه، كخرائط للحزن، يحدد المدن التي محتها النيران، والقرى التي ابتلعتها الأرض، والبيوت التي تحولت إلى خيام ، والخيام إلى مقابر.

في الهواء، تمتزج رائحة الرماد بأشباح الياسمين والزعتر، عطر مر حلو يلتصق بذاكرة القطاع.

تحمل الريح معها عويل الأطفال، ضحكاتهم الآن نجمة بعيدة تتلألأ في الظلمة الشاسعة.

ولكن بين الأنقاض يتحرك شيء ما. بذرة تتحدى الصمت، تنفتح تحت وطأة الحجر. تمتد، بشكل أعمى، نحو الشمس، غير مرئية ولكنها محسوسة، مثل نبض قلب مدفون.

إنها أمل يرفض الموت، حلم في مواجهة الكابوس، حياة تجرؤ على التفتح في الرماد.

يشعر العجوز بذلك، رعشة الحياة، هذا الهمس الأخضر في عالم رمادي اللون.

تشتد قبضته على عصاه، على غصن الزيتون والخشب دافئ في يده، وكأن الشجرة التي جاءت منها

لا تزال تتذكر السماء.

في تلك اللحظة، لم يكن وحيدًا. فقد نهضت الأنقاض من حوله، والتأمت حوله مجموعة من الملائكة .

إنهم يغنون عن الضياع، وعن ما لا يمكن انتزاعه أبدًا، عن الأرض التي تغتسل في بحر الدماء، وفي الأنفاس، وفي عظام أولئك الذين يرفضون النسيان.

يرفع العجوز رأسه، تحلق عينيه في الأفق، حيث تبدأ الشمس رحلتها، مترددة ومتفائلة.

لم تعد الأنقاض عند قدميه قبرًا، بل حديقة تنتظر، تربة صادحة بوعد العودة.

في السماء يحلق طائر بجناحيه الممزقين، لكنه يطير حاملاً صلوات التائهين، وأغاني الصامتين، وأحلام المحرومين.

يدور مرة، واثنتين، ثم يختفي في النور، تاركاً وراءه أثراً ، خيطاً من ذهب في نسيج الليل.

يراقب العجوز هذا المشهد، وقلبه ينبض بعزيمة وثبات. إنه يعلم أن طريق النصر طويل وشاق ، وأن الليل سوف يعود مرة أخرى، لكنه يعلم أيضًا أن بداخله، وفي الأرض تحت قدميه، هناك نار لن تنطفئ، ونور لن يخفت، وحلم لن يفنى.

يقف الآن ، ويمشي قُدُمًا عبر الأنقاض، وعبر الغبار، وعبر الدخان ، نحو الفجر الذي ينتظره خلف غيمة المدفعية .

خطواته متثاقلة، لكنها مؤكدة، لأنه يحمل معه ثقل شعب يرفض النسيان، وأملًا في مستقبل ينهض

من رماد الماضي.

وبينما يمشي، تتنفس الأرض ، كل خطوة صلاة، كل نفس وعد، كل نبضة قلب أغنية لليوم الذي لن تنسى فيه الشمس أن تشرق، عندما تُخاط الظلال بخيط الفجر ، والوقت لن يكون عرجًا بعد الآن، وسوف يرقص عبر الأنقاض، احتفالًا بكل ما فقدناه، وكل ما تم العثور عليه.

0 التعليقات: