الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، أغسطس 08، 2024

قصة قصيرة "عجوز على متن الطائرة" : عبده حقي


رجل عجوز يقف بجوار هذا الوحش المجنح، وكان وجهه أشبه بخريطة أزمنة مضت، محفورة بخطوط قصص لا حصر لها لم تُحكى بعد . كانت عيناه، المختبئتان خلف نظارات داكنة، لا تعكسان الطائرة فحسب، بل تعكسان أيضًا جوهر الأرواح المسافرة، الضائعة والموجودة في فسيفساء الوجود. القبعة فوق رأسه، تاج أزرق سماوي يشهد على سماء شبابه الزرقاء والبحار اللامتناهية التي لم يبحر فيها قط.

كانت دقات قلبه تردد صدى همهمة المحركات البعيدة، وكل همهمة كانت بمثابة خطوة أقرب إلى الرحلة الأخيرة. وكان معطفه، الذي كان بمثابة درع يحميه من الرياح غير المرئية، يهمس بأسرار أراض بعيدة حيث تتلألأ الأرض مثل النهر وتقطر السماء مثل العسل. وبينما كان هو يضبط حزام حقيبته، شعر وكأنه يضبط وزن ذكرياته، كل منها ريشة، وكل منها حجر.

تحرك أفراد الطاقم في رقصة صامتة، وكانت حركاتهم دقيقة ولكنها تشبه الحلم، وكأنهم يوجههم معلم غير مرئي يقود سيمفونية المغادرة. كانت المخاريط، مثل الأنبياء الصامتين، تشير إلى الطريق، وتوجه مسار هذا الرجل الذي بدا أن كل خطوة يخطوها تتردد في صدى نبوءة منسية. امتدت السلالم المؤدية إلى الطائرة مثل لسان عملاق، حريص على تذوق القصص التي لم تُروَ بعد.

وبينما اقترب من الطائر المعدني، بدا أن الطائرة ترتجف من شدة الترقب، أو ربما كان الرجل هو الذي يرتجف. كان جسم الطائرة يحمل رموزًا للغات بدائية منسية، كل حرف منها تعويذة، وكل منحنى منها عقد ملزم مع المجهول. "مرحبًا بك على متن الطائرة"، بدا الأمر وكأنه يهمس، رغم عدم نطق أي كلمات، "مرحبًا بك في المكان الذي ينسى فيه الزمن نفسه وتستيقظ الأحلام".

امتدت يده، ليلمس أصابعه المعدن البارد، وشعر بنبض ألف رحلة تجري تحت السطح. صعد الدرج، وكانت كل خطوة رحلة عبر ماضيه، رحلة عبر صحاري الذاكرة وغابات الأحلام المنسية. كان الجزء الداخلي من الطائرة أشبه بكاتدرائية من العزلة، حيث كانت المقاعد مثل مقاعد خشبية، جاهزة لاحتضان المتعبين والمضطربين على حد سواء.

جلس على المقعد الذي احتضنه وكأنه صديق قديم، وأغمض عينيه. ارتفعت أصوات محركات الطائرة، وكأنها ترنيمة، صلاة لآلهة السماء. ومضت أضواء المقصورة، ليس باللمعان المعقم المعتاد، بل بتوهج ناعم أثيري، وكأن الطائرة على وشك الإقلاع ليس في الهواء بل إلى عالم آخر، مكان حيث الأرض مجرد فكرة والأفق أسطورة.

كان الركاب الآخرون عبارة عن ظلال، صور لكائنات من بُعد آخر، وجوههم مغطاة بضباب جفونهم المغلقة. هل كانوا رفاقًا له أم خيالًا؟ هل كان الأمر مهمًا؟ في هذا المكان، تلاشت الحدود بين الواقع والخيال، ورقص الماضي والحاضر والمستقبل في رقصة فالس فوضوية وجميلة.

انطلقت المحركات، وزمجر الأسد، عندما بدأت الطائرة في التحرك. وامتد المدرج مثل شريط القدر، يوجههم نحو المجهول. شعر الرجل العجوز بقلبه يرتفع عندما غادرت العجلات الأرض، وكان إحساس الطيران صديقًا قديمًا، ولكنه دائمًا جديد. غطت السحب الطائرة، كفنًا من البخار يخفي العالم أدناه، شرنقة من الأحلام التي يجب أن تتحول فيها.

كان من حين لآخر يغيب عن الوعي ثم يعود إليه، وكان هدير المحركات بمثابة تهويدة، والاضطراب اللطيف بمثابة تذكير بعدم القدرة على التنبؤ بالحياة. رأى وجوهًا في السحب، مألوفة وغريبة، تندمج وتذوب في الأثير. سمع أصواتًا، همسات ناعمة وتصريحات عالية، كل منها جزء من قصة لم تُكتب بعد.

لقد فقد الزمن معناه عندما ارتفعت الطائرة عالياً، متحررة من قيود الأرض. كان في كل مكان ولا مكان، مسافراً في رحلة بلا وجهة. كانت الطائرة سفينة أحلام، كل مسمار منها نجم، وكل مسمار منها كوكب، تبحر عبر مجرة ​​عقله.

بدأ الهبوط بنفس الدقة التي بدأ بها الصعود، كان بمثابة شد لطيف لحواسه، وتذكير بأن حتى الرحلات الأكثر روعة لابد وأن تنتهي. ظهرت الأرض في الأسفل، كقطعة قماش مرقعة من الواقع، مخيطة بخيوط من الاحتمالات. هبطت الطائرة بصوت خافت، وقبلة من الأرض، ترحب بالمتجول مرة أخرى.

عندما نزل الرجل العجوز من الطائرة، شعر بإحساس بالاكتمال، وكأنه وصل إلى نهاية قصة وبداية قصة أخرى. كان المدرج صلبًا تحت قدميه، ومع ذلك فقد شعر بالخفة، وكأنه يستطيع الانجراف بعيدًا مع النسيم التالي. تنهدت الطائرة خلفه، فقد انتهت رحلتها، وتحقق هدفها.

لقد ابتعد، وكان العالم من حوله عبارة عن نسيج من الأحلام والواقع، وكل خطوة كانت بمثابة نغمة في سيمفونية حياته. لم تكن الرحلة الأخيرة نهاية، بل كانت استمرارًا، واستكشافًا لا ينتهي للمناظر الطبيعية السريالية التي كانت تكمن في الداخل والخارج. كانت السماء أعلاه والأرض أدناه مجرد خلفيات لمسرح روحه، حيث كانت كل رحلة هي الأخيرة، والأخيرة هي الأولى.

0 التعليقات: