الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الثلاثاء، سبتمبر 03، 2024

"زورق الشاعر" نص مفتوح : عبده حقي



أنا، الرحالة المسافر بين التيارات، الضائع في متاهة المجهول. تدور المياه وتدور ـ بل تتدفق، كأنفاس ألف شبح انطلق من قلب الليل. السماء ـ هل كانت هناك من قبل؟ ـ ذابت، مثل أضعف همسة في حلم، واختفت في بطن هاوية لا نهاية لها. النجوم، التي كانت ذات يوم منارات مخلصة، أصبحت ذكريات بعيدة، تومض داخل الوجود وتختفي منه وكأنها هي أيضا سئمت من هذا الانجراف الأبدي. تركتني لأتجول، لأبحر في هذه الأعماق اللامتناهية، مستكشفا بلا خريطة، مسافرا إلى عوالم حيث المستحيل ليس سوى كلمة غير منطوقة.

موجة تهب من تحتي، وثورة مفاجئة للبحر وكأنه يحاول أن يبتلع الهواء. أنا معلق في رقصة، أتأرجح على إيقاعات لموسيقى لا يسمعها إلا الكون. هذا ليس محيطًا؛ إنه نبض الكون غير المقيد، وأوردة الأبدية تضخ حياتها عبر شرايين الوجود. الماء، مرآة لا تعكس العالم أعلاه، بل تعكس الأسرار الدفينة تحت طبقات من الزمن - الزمن، ذلك الرفيق المتقلب الذي يتشوه مه اكتشافه.

تحتضنني الأمواج، كما تحتضن الأم طفلها، لكن لمستها ليست حنونة. إنها لمسة ممزوجة بالمجهول، بوعد بما يكمن تحتها. وتحتها - ما الذي يختبئ هناك؟ لا أجرؤ على تسميته، خشية أن يرتفع ويلتهم شظايا عقلي التي بقيت لي. لقد رأيته، في لمحات، في شظايا أحلام لم تكن لي. صورة ظلية مقابل أعمق زرقة، شكل يتحدى الفهم، يتلوى ويدور، بعيدًا عن متناول اليد إلى الأبد. إنه يلوح في الأفق، همسات تتردد في الغرف المجوفة في ذهني، همسات تتحدث عن حقائق لا ينبغي لأي إنسان أن يعرفها أبدًا.

أشعر بالانجذاب نحو هذا الشبح العميق، كما يشعر المرء بانجذاب نحو حافة جرف، مدركًا تمام الإدراك أن التقدم خطوة إلى الأمام يعني السقوط. ومع ذلك، لم أعد متأكدًا ما إذا كان السقوط هو ما أخشاه، أو ما إذا كان السقوط هو الخلاص الوحيد من هذا الانجراف المستمر. الهواء كثيف وخانق، لكنني لا أختنق - أنا فقط أتنفس كما لو كان وزن الغلاف الجوي جزءًا من جوهر كياني.

لقد أصبح الزمن، إن وجد هنا، خيطًا ملتويًا، يتكشف عند أطرافه، ويقودني إلى مسارات لا تتوافق مع الفهم البشري للتسلسل. أرى الماضي والمستقبل متشابكين، ومتشابكين معًا في رقصة غريبة من الحتمية. أنا هنا وهناك، بين الحين والآخر، متفرج على تفككي الخاص.

تتصاعد الصور من الأعماق ـ إنها ذكريات، لكنها ليست ذكرياتي. إنها تنتمي إلى البحر، إلى المخلوقات التي تسكن أعماقه التي لا تُقاس، إلى الأرواح الضائعة التي أصبحت جزءاً من هذا التيار الأبدي. تقف منارة في البعيد، يضيئ ضوءها ببريق بارد لعين تراقب، تراقب دوماً، تنتظر دوماً. ولكن من تنتظر؟ من تنتظرني؟ من تنتظر من قبلي، الذين، مثلي، اعتقدوا أنهم قادرون على إتقان هذه القوة اللامحدودة؟

تموج المياه بالأفكار ـ لا، بالعواطف ـ لا، بشيء أكثر بدائية، شيء يتحدى لغة الأرض. إنها لغة التيارات والمد والجزر، ولغة جذب القمر وتوهج الشمس. إنها تتحدث إليّ بالألغاز، وفي الصمت بين الأمواج، وفي التوقفات التي ليست توقفات بل أنفاس الهاوية ذاتها. أحاول أن أجيب، لكن صوتي يبتلعه الاتساع الذي يحيط بي.

تتصاعد عاصفة، من الداخل. تلتف حولي، ثعبان من الرياح والمياه، تلمع قشوره بعرق الأرض. أُلقى في الأعماق، وأدور، وأُلقى إلى الأعماق، حيث لا يستطيع الضوء أن يخترق، حيث لا يأتي الضوء إلا من وهج المخلوقات التي لم تر الشمس قط. تتحدث عيونها - أوه، عيونها - عن المعرفة القديمة، عن زمن ما قبل الزمن، عن مكان حيث كان البحر والسماء رتقا واحدًا، وكان كل شيء فوضى.

أنا هناك، في ذلك المكان، في ذلك الوقت، في تلك الفوضى. أنا الفوضى. أنا البحر والسماء، العاصفة والهدوء، المعروف والمجهول. أنا ممزق وسأعيد تجميعي، لكنني لم أعد كما كنت أبدًا. أجزاء مني متناثرة عبر الأمواج، تحملها الرياح، ضائعة في الامتداد اللامتناهي لما يكمن وراء ذلك.

ثم يأتي الصمت. الصمت الذي لا يأتي من غياب الصوت، بل من حضور شيء أعظم وأعمق بكثير. إنه صمت الفراغ، والفضاء بين الأفكار، وبين الأنفاس، وبين دقات قلب الوجود نفسه. هنا أجد نفسي، في عين العاصفة، في وسط الدوامة، حيث كل شيء ساكن، حيث كل شيء لا شيء.

أنا معلق بلا وزن في هذا العدم. لقد أصبح الماء مهدًا مرة أخرى، لكن هذه المرة لا يهدهد جسدي، بل روحي. لقد جُردت من كل ما كنت عليه، وكل ما كنت أعرفه، وكل ما كنت أعتقد أنه حقيقي. لقد عُرِضت أمام الكون، روحًا بلا شكل، وعقلًا بلا فكر، وكائنًا بلا جوهر.

البحر ـ بل الهاوية ـ يحتضنني ويغلفني ويجعلني جزءاً من رقصه الأبدي. لم أعد مسافراً، ولم أعد مستكشفاً للمجهول. أنا المجهول، والمجهول. أنا الانجراف، والتيار، والموجة. أنا الصمت بين الأمواج، والتوقف قبل العاصفة، والنفس قبل الانغماس.

أغرق، ولكنني لا أغرق. أرتفع، ولكنني لا أطفو على السطح. أنا عالق في المنتصف، حيث يختلط الواقع بالخيال، حيث لا يصبح الخط الفاصل بين الاثنين خطًا بل أفقًا يمتد إلى ما هو أبعد من مدى البصر. أنا تائه، ولكن في خسارتي، أجد نفسي.

الماء يتحدث إليّ مرة أخرى، بلغة أفهمها الآن. يخبرني عن الأعماق، والأسرار الدفينة هناك، والحقيقة التي تكمن مخفية تحت السطح. يتحدث عن النهاية، ليس كخاتمة، بل كبداية، دورة تتكرر بلا نهاية، تعود إلى المصدر إلى الأبد، وتبدأ من جديد إلى الأبد.

أنا أستمع، وفي استماعي، أصبح. أصبح الماء، والموجة، والتيار. أصبح الصمت، والفراغ، والهاوية. أصبح كل ما هو موجود، كل ما كان، كل ما سيكون. أنا البحر، البحر اللامتناهي، البحر الذي يمتد إلى ما وراء الأفق، وراء متناول الشمس والقمر، وراء حدود الزمن نفسه.

أنا البحر، والبحر أنا.

0 التعليقات: