الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأحد، سبتمبر 08، 2024

"أصداء تطارد صمت المرايا" نص مفتوح عبده حقي


 تمسك يد بالأرض، فتسحب الوقت من بين أصابعها مثل الصلاة. السماء، التي سئمت من الشهادة، تتدلى في الأعلى مثل بالون مثقوب، تتسرب منه همسات الأغاني المنسية. أتعثر عبر أنقاض الأمس، كل نفس هو صدى للأحلام التي لم تتعلم الوقوف أبدًا. الأشجار والطرق - تتحدث إليّ بلغات لا أستطيع فك شفراتها، لكنني أومئ برأسي على أي حال، وكأنني أنتمي إلى صمتها. يبتسم القمر مثل بوصلة مكسورة، يشير إليّ نحو لا مكان. الموت ظل يتلألأ مثل لافتة نيون محتضرة، يهتز طنينه في نخاع أفكاري. أسير بسرعة أكبر. لكن الرصيف زلق بذكريات لم أطلبها.

ترى، يتساقط العبث مثل الدم من جرح لم ير النور قط. نحن جميعًا أطفال ضائعون، نتتبع أنماط يأسنا بأصابع مرتجفة. يذوب الأفق مثل ساعة في حلم حمى، وأمد يدي، آملًا في شيء ثابت - أي شيء - لكن كل ما أشعر به هو الريح تضحك وتستهزئ. ينهار العالم العابر مثل الدخان. أتساءل، هل كان هناك معنى على الإطلاق، أم أننا جميعًا كنا نرقص في دوائر حول وهم الدوام؟

تنمو الأزهار هنا إلى الخلف، وتنغلق بتلاتها على نفسها، وتتراجع إلى الأرض مثل أسرار يتم همسها بصوت عالٍ للغاية. أجلس بين هذه الأزهار، وركبتي تضغطان على صدري، وأشعر بنبض الأرض تحتي. تضرب الشمس الملفقة من الأسنان السماء، وتطحن ضوء النهار إلى مسحوق. هناك جرس يرن في مكان ما - ربما في لا مكان. أسمعه ولكن لا أعرف إلى أين يقود.

تنهار الساعات وتنطوي على نفسها مثل العشاق الذين لا يستطيعون الفراق لكنهم حتما يودعون بعضهم البعض. أغرس يدي في التربة، أشعر بشيء حقيقي. لكن كل ما أجده هو ساعات بلا عقارب، تدق لحظات لم توجد أبدًا. تصبح أنفاسي ريحًا، ينثر غبار الأيام المنسية.

في الأعلى، طائر أسود بلا عيون، تلفح وجهه هالات. إنه يعرف اسمي، لكنه لا يريد أن ينطق به. يتضخم الصمت مثل المد، فيغرق آخر شظايا المعنى التي كنت أحتفظ بها ذات يوم. يختفي الطائر في السماء، وأدرك أنني كنت أطارد الظلال، محاولًا إيجاد معنى لكون يرفض التحدث معي.

أحلم بنوافذ لا تُفتح، وجدران تغني حين تضغط أذنك عليها. في هذه الأحلام، أصابعي هي جذور، تمتد عميقًا في الأرض، في الظلام حيث تدندن الأرض بترانيم لا يسمعها أحد. أسحب نفسي إلى عمق أكبر، باحثًا عن إجابات في الصمت بين الحجارة.

هناك باب هنا، في مكان ما، لكنه يظل يتحرك. في كل مرة أمد يدي إلى المقبض، يختفي، ولا يخلف ورائي سوى رائحة المطر على الأسفلت. أسير عبر ممرات مصنوعة من المرايا، لكن لا أحد منها يظهر انعكاسي. بدلاً من ذلك، أرى وجوه أشخاص لم أقابلهم قط، وأفواههم تتحرك ولكن لا يتسرب أي صوت.

أتوقف وأستدير وأحاول أن أجد نفسي وسط الفوضى، لكن المرايا تضحك. إنها تعلم. نحن جميعًا أشباح هنا، متمسكون بفكرة الجوهر والمادة. لكن كلما تعمقت أكثر، أدركت أن العالم الزائل له أسنان، وهو يقضم نسيج أفكارنا وآمالنا. كل خطوة هي خطوة نحو الفراغ، حيث لا شيء مهم، وينهار كل شيء في نفس الصرخة الهادئة.

في وادي الساعات المتصدعة، تعزف الرياح لحنًا لا يسمعه إلا الموتى. تتمايل الأشجار، ولكن لا توجد أوراق تتحرك - فقط صوت الوقت وهو يتكشف، مثل سترة تعلقت بحواف الوجود الحادة. أتبع المسار، رغم أنه يبدو ملتويًا تحت قدمي، ملتويًا مثل ثعبان الهواء.

أمامنا يقف رجل بلا وجه أو ملامح، مجرد ظل في الشفق. أناديه، لكن صوتي يذوب في الفراغ بيننا. أمد يدي إليه، لكن يدي تمر عبر شكله كما يمر الماء عبر المنخل. كل شيء هنا سائل، سائل، مثل الدقائق التي تفلت من قبضتنا.

أدرك أننا جميعًا نذوب. ونصبح جزءًا من الضباب الذي يلتصق بسفوح التلال، الضباب الذي يغطي فهمنا. يبتعد الشكل، ويختفي في الأفق، وأبقى واقفًا على حافة هاوية لم تكن موجودة من قبل.

وبينما أخطو إلى الأمام، نحو الفراغ، أدركت أن هذه هي الحقيقة الوحيدة. اليقين الوحيد في عالم يتألف من شظايا وضوء خافت.

البحر هائج، لكن أمواجه متدفقة من الحبر. خطوط سوداء على صفحة لن يقرأها أحد أبدًا. أخوض في الماء، وأشعر بثقل القصص غير المكتوبة تسحبني إلى الأسفل. في الأعلى، السماء مخيطة بقطع من الأغاني القديمة، تهويدات ترتجف مثل الأجنحة المكسورة في الليل. أنا محاصر بين المد والجزر، بين القصص التي أريد أن أرويها وتلك التي ترفض أن تُحكى.

يراقبني طائر بوجه بشري من الشاطئ، عيناه كثقبين أسودين يبتلعان النجوم. يناديني بصوت أشبه بالضحك، مثل اليأس. أحاول السباحة نحوه، لكن الحبر يتكثف حول أطرافي، ويسحبني إلى الأسفل.

لا يوجد ضوء هنا، ولا سطح - فقط أعماق لا نهاية لها من الكلمات غير المنطوقة. أفتح فمي لأصرخ، لكن ماء البحر المالح يملأ رئتي، وأدرك - هذه هي الطريقة التي نغرق بها. ليس في الماء، ولكن في ثقل ما لا نستطيع قوله. يستهلكني الحبر، وأرحل، مذابًا في صفحات كتاب لن يقرأه أحد أبدًا.

ينفتح باب، لكن لا يوجد شيء خلفه. مجرد فراغ، فراغ يمتد إلى الأبد، يبتلع النجوم والسماء وكل شيء. أخطو من خلاله، وأشعر بثقل الغياب يضغط عليّ من جميع الجهات. الهواء كثيف بالصمت، ثقيل بصدى كل الأشياء التي لم نذكرها.

أمشي عبر غرف مليئة بالظلال، لكنها ليست ملكي. إنها ملك شخص آخر، شخص كان هنا من قبل، شخص سيأتي بعدي. أحاول التحدث، لكن الكلمات تلتصق في حلقي، تخنقني. أغرق في الفراغ، أختنق بالصمت.

في الخارج، تعوي الرياح، لكنها لا تجلب أي راحة - فقط تذكير بأن الوقت يمضي بعيدًا، وأن كل لحظة هي خطوة أقرب إلى النهاية. أحاول الوصول إلى شيء، أي شيء، لكن لا يوجد شيء أتمسك به. فقط الفراغ. فقط الظلام.

وبينما أسقط، أدركت أن هذا هو كل ما كان موجودًا على الإطلاق.

0 التعليقات: