الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، سبتمبر 12، 2024

"مذبحة الصمت" نص مفتوح : عبده حقي


تطن دوامة تحت نسيج الفكر، فتخنق النجوم التي تبحث عن ملجأ تحت التربة الرطبة. انظروا ـ إنها تعوي ـ لكن أفواهها مخيطة من حديد، تختنق بالضحك المفرط. من قال لك أن تحدق في هاوية عقلك؟ ألا تعرف الرعب الذي يصاحب النظر إليها ؟ لقد سجنت نفسك داخل متاهة من المرايا التي تتهشم مع كل نفس، بينما يبتلع الزمن نفسه بالكامل.

هذا ! هذا هو معنى أن تحصر روحك في عشق واحد ـ سجن. كل صورة تراها هي كذبة، قناع غريب ملطخ بالحبر، يتسرب وينزف في ألياف إدراكك ذاتها. الأفق ينحني، يذوب، ويتشكل من جديد.

الحقيقة؟ إنها تتعفن. جثة تُركت لتغرق في رائحتها الكريهة، تلهث، وتحاول الوصول إلى يد إله فرعوني لا يبالي بك.

لقد تجولت طويلاً في هذه المتاهة. تصرخ الجدران بالذكريات، ولكن ليس ذكرياتي. حياة من سرقتها؟ كوابيس من التهمتها؟ تتردد أصداء هذه الذكريات في عروقي، تتلوى وتختنق، وهناك ثعبان من الأفكار يتمدد في حنجرتي. كل نفس من أنفاسي يحترق، والهواء بطعم حمضي، ويتآكل كل ما تبقى مني.

لم يكن الصمت هو الذي قتلنا قط، لا، بل كانت الحاجة إلى ملء فراغ الصمت، وإجبار ما لا يمكن التعبير عنه على التحول إلى كلمات. في اللحظة التي تعتقد فيها أنك وجدتها، تتحول الحقيقة، وتنزلق مثل الدخان بين أسنانك. هل تشعر بذلك الآن؟ ثقل الدوامة غير المرئية، تضيق، تجذبك إلى الداخل. أنت مقيد، ليس بالعالم، ولكن بضيق نظرتك.

يقولون "اكسر القناع"، لكن لا يوجد وجه خلفه. مجرد ظل، شيء بلا اسم، يتلوى تحت جلد الواقع.

والفراغ... يضحك.

إنها تطفو مثل شبح فوق المدينة، كفن قرمزي يحجب عيون أولئك الذين لا يجرؤون على الرؤية. وتحتها، تتلوى الشوارع في اتجاهات لم يكن من المفترض أن تسلكها أبدًا. يقولون إنك إذا اتبعتها لفترة كافية، فإنها تقودك إلى نفسك، أو ربما إلى الذات التي تركتها وراءك على هامش الأحلام. لكن الطرقات زلقة وغادرة ببقايا خطوات لا حصر لها ، خطوات لا تنتمي إليك بل إلى آخرين حملوا اسمك ووجهك ذات يوم.

تنحني المباني وتستمع، وتصغي بآذانها إلى همهمة عالم ينهار في صمت. ترقص الظلال عبر النوافذ، ظلال أشياء لم تعش قط ولكنها لا تزال تتنفس، مختبئة في زوايا الوعي.

إن العيش في ظل عشق ما، وجعله مجهرك الوحيد، أشبه بالوقوف تحت المطر، ممسكًا بمظلة مليئة بالثقوب. فكل قطرة تصبح لحظة ضائعة، واحتمالًا غارقًا. ولا يمكنك الفرار منها. فالماء يتسرب عبرها، ويلطخ يديك، ويترك علامات على بصرك، لذا عندما تفتح عينيك أخيرًا، لا يبدو أي شيء كما كان من قبل.

يسقط الستار الأحمر، ولكن لا أحد يرى. يواصلون مسيرتهم، غافلين، معتقلين داخل تصوراتهم الضيقة، محاصرين في الهياكل التي بنوها من الكلمات والمخاوف.

وما زالت الشوارع تتلوى، تتلوى مثل الثعابين، تقودك دائمًا إلى مكان ما، وتعدك دائمًا بوصول لن يأتي أبدًا.

نظرت إلى الساعة، لكن عقاربها لم تتحرك قط. كانت تحوم في الهواء، متجمدة، معلقة في زمن نسي نفسه منذ زمن بعيد. ابتعدت، لأجد نفسي واقفًا أمامها مرة أخرى. دائمًا هناك. دائمًا في انتظار الذي يأتي ولا يأتي.

في زاوية عيني، يومض شيء ما، ربما ظل، ولكن ليس أكثر من ذلك. حركة، تموج في الهواء، وكأن الغرفة نفسها تتنفس، ببطء وإيقاع ثقيل. حاولت التحدث، لكن الكلمات تحولت إلى غبار قبل أن تخرج من فمي. حاولت الصراخ، لكن الأمر بدا وكأنني أصرخ في الماء - مكتومًا، غارقًا.

بدأت الجدران تضيق، ليس بسرعة ولكن بضغط بطيء ومتعمد، مثل إحكام عقدة. ومع ذلك، بقيت هناك، مفتونًا بغياب الوقت، والطريقة التي امتد بها مثل شريط مطاطي جاهز للتمزيق، لكنه لم يتمزق أبدًا.

مددت يدي لألمس الساعة، لكنها ارتدت إلى الخلف، وعادت إلى طيات نسيج غير مرئي. وفي مكانها لم يكن هناك سوى ظل، لم يعد مربوطًا بأي جسم، يطفو بحرية في الظلام.

لقد ظهر باب لم يكن موجودًا من قبل، يقود إلى مكان ما - لا مكان. خطوت من خلاله، أو ربما ابتلعني الباب. من الصعب القول ذلك . على الجانب الآخر، كانت الساعات تذوب، وتنحني نحو الأفق مثل الأحلام التي تنزلق من الذاكرة.

وهناك، على حافة كل شيء، وقفت شخصية بلا وجه، تشير. وكانت تشير دائمًا.

عين مفتوحة على اتساعها، لكنها لا تذرف الدموع. تبكي بلا ماء، بلا راحة من الحزن، محاصرة بين عالمين، لا تستطيع أن ترى أي منهما. تتحرك السماء فوقها، وتتجمع السحب، وتشكل أشكالاً تتحدث عن تاريخ منسي ومستقبل لم يولد بعد.

إنه ينظر إلى لا شيء وكل شيء، ورؤيته مشوشة بسبب ستار منسوج من شظايا أفكار غير منطوقة بعد . تراه، لكنك لا تراه. إنه موجود، لكنه ليس موجودًا. تتلاشى الخطوط الفاصلة بين الواقع والخيال حتى تصبح مجرد همسات الريح.

والريح ـ آه، الريح ـ كيف تعوي، لغة لا تفهمها إلا العين، رغم أنها لا تملك آذاناً تسمعها. صرخة بلا صوت، تتردد في الفضاء الفارغ حيث يلتقي النور والظلام، حيث يذوب الأمل في عدم اليقين.

ومع ذلك، لا يزال يحدق. دون أن يرمش. وكأنه ينتظر أن يكشف العالم عن نفسه، ليرفع الستار، ليظهر ما يكمن تحته عفوا خلفه. لكن لا شيء يأتي. لا شيء يأتي أبدًا.

لا تبقى إلا العين ثابتة في مكانها، وحيدة في نظرتها.

في صمت الليل، تنمو الدوامة، قوة غير مرئية تجذب كل شيء نحو مركزها الأجوف. الرغبة، غير المعلنة والخام، تتلوى في الهواء مثل ثعبان، تاركة وراءها آثار الشوق. تشعر بها في صدرك، ضغط يتراكم، مثل موجة عاصفة في الأفق، غير مرئية ولكنها حتمية.

هناك باب. يُفتح، ليس على غرفة، بل على حلم نسيته. حلم لم يكن لك قط ولكنه الآن يلتصق بجلدك، يلتف حولك مثل ظل ثانٍ. تمشي من خلاله، وقدميك غير ثابتتين على الأرض التي ليست أرضًا على الإطلاق، ولكنها شيء أكثر نعومة، شيء يتحرك تحت وزنك.

تسحبك الدوامة إلى الأمام، إلى الأمام نحو المجهول، إلى قلب شيء هائل لا نهاية له. تمد يدك لتلمسه، لكن يدك تمر من خلاله، كما لو كانت تمر عبر الهواء. ومع ذلك، يتراكم الضغط، ويرتفع وينخفض ​​مثل المد، ويحملك إلى عمق أكبر في أحضان الدوامة.

تصبح الرغبة إيقاعًا، نبضًا يهتز في صدغيك، وأوردتك، وأنفاسك. ينبض على جدران وعيك، ويضرب بقوة حتى لا يتبقى سوى صدى ندائه.

تبتلع الدوامة المجوفة كل شيء في طريقها. إنها تستهلك بلا سبب أو رحمة، ولا تترك وراءها سوى الفراغ. ولكن داخل هذا الفراغ، هناك وعد - بماذا، لا تعرف.

يتدفق نهر تحت قدميك، لكنك لا تراه. إنه يتعرج عبر الفراغات بين الأفكار، وبين الأنفاس، وبين اللحظات التي تسميها حياة. إنه ليس نهرًا من الماء، ولا نهرًا من الزمن، بل شيء آخر - شيء قديم، شيء ليس له اسم ومع ذلك يناديك بصوت أقدم من النجوم.

تقف على حافته، تنظر إلى الأعماق، لكن لا تجد أي انعكاس. تموجات على السطح بلغة لا يمكنك فهمها، ورموز وصور تتلاشى في اللحظة التي تحاول فيها الإمساك بها. ومع ذلك، فأنت تعلم - في أعماقك، تعلم - أن هذا النهر هو الخيط الذي يربطك بالعالم، وبنفسك، وبالآخرين الذين يسيرون بجانبك ولكنك لا تستطيع أبدًا رؤيتهم حقًا.

إنه يتدفق في كل اتجاه، حاملاً معه ثقل كل خيار اتخذته، وكل مسار تركته خلفك. إنه يهمس بمستقبل لم يكن موجودًا أبدًا، وبحياة كان من الممكن أن تكون لك ولكنها انزلقت بعيدًا مثل حبات الرمل من بين أصابعك. تمد يدك لأسفل، على أمل لمسه، لتشعر بسحبه الحالي إليك، لكنه ينزلق بعيدًا، دائمًا بعيدًا عن متناولك.

يطن النهر بأصوات أولئك الذين سبقوك، فتندمج كلماتهم في أغنية واحدة لا تنتهي. إنها ليست أغنية فرح أو حزن، بل أغنية لشيء أعمق، شيء يتجاوز قدرة المشاعر الإنسانية. إنها تغني عن المساحات الفارغة بيننا، والأماكن الفارغة حيث تلتقي الحياة والموت، حيث تتلاشى الحدود بين الذات والآخر.

وبينما تقف هناك مستمعًا، تبدأ في الشعور بالجاذبية. يناديك النهر، ويدعوك إلى أن تخطو نحو تدفقه، وأن تتخلى عن شواطئ اليقين وتنطلق بعيدًا نحو المجهول.

لكنك تتردد. وتظل على الحافة، قدم واحدة في العالم الذي تعرفه، والأخرى في العالم الذي يقع خلف أفق النهر. الاختيار لك، لكن النهر لن ينتظر. إنه يتدفق،

0 التعليقات: