الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، سبتمبر 12، 2024

"قصائد من تحت الإسفلت" نص مفتوح : عبده حقي


تموت القصيدة في المنفى، ضائعة كطفل يبحث عن لغة ووطن. ثم ندفن ذكراها تحت أبراج جديدة، جسدها المنسي، يرتجف من صوت حروب لم تنتهي بعد. بين حجارة السور يختبئ حلم. شجرة زيتون تهمس بلسان لم يعد أحد يعرفه. في أرض بلا أسماء نقف، نرسم صلوات منسية على حصير السماء. كم من شموس فقدناها ونحن نطارد هذه الظلال؟ الأرض تتحرك، لكن الشاعر يبقى، صوتًا ممتدًا رقيقًا كخيط بين الأرض والسماء. ليس الصمت هو الذي يقتل. إنه هذا الضجيج، هذا الزئير الثقيل للحياة الذي يبتلع النغمات الرقيقة لأنفاس القصيدة.

ينزف الأفق لونا أرجوانيا في زوايا الشوارع. يمشي الشعر حافي القدمين، وقد جرحت قدماه حصى العصر الخشنة. تنطلق صفارات المصانع، وتتدفق الحشود، وتطن الأرض تحت وطأة الآلات. يقولون إن القصيدة ضاعت، وأن لحنها لم يعد يستطيع الصمود. لكنني أسمعه - ظل همسة عالقة بين المكابس، ترتفع مع الدخان الأسود. الحبر الصمغي عبارة عن قطار يطحن أسنانه المعدنية على القضبان، متجهًا إلى مكان ما في الخارطة العربية - نحو مكان لا تزال الكلمات ترقص فيه بمزاج الريح. زمن لا يخاف من الأيدي المرتعشة. هل ترى الخطوط؟ إنها موجودة. فقط المكفوفون يستطيعون العثور عليها الآن، بين غيمات الغبار المتصاعد.

تومض إشارة الموبايل الذكي، وتطن فوق الغابة. في مكان ما، بعيدًا عن حافة الفهم، تتكسر الكلمات مثل طائر بألف جناح. لا توجد حدود هنا، ولا خطوط حيث تتوقف الأبيات الشعرية وتبدأ الحياة. هل هذه ثورة، أم أنها انهيار حضارة ؟ من أعماق الأرض، ترتفع - أصوات القصائد المدفونة منذ فترة طويلة، المتشققة والمتآكلة، تسير عبر عروق الأنهار. أم الربيع والنيل والرافدين . تحمل الرياح شظايا، بالكاد تُسمع، بين الأوراق، إلى أفواه أولئك الذين لن يتحدثوا عنها أبدًا. تنبثق مدينة من اللون الأخضر، مدينة مشيدة من المرايا المهشمة، والفهود والأساطير المنسية. تقف على الحافة، والقصيدة تنتظر على الجانب الآخر، تبتسم مثل ثورة لم تحتاج أبدًا إلى أسلحة.

لم تعد القصائد تتساقط كأوراق الشجر. بل تغوص كالحجارة، تجرها إلى أسفل وثقل مائة يد تسحبها، تسحبها دائمًا. الهواء كثيف بألم الرغبة - الرغبة في ما لا يمكن تسميته، ما لا يمكن التحدث عنه. تركع الشاعرة على العتبة، وأصابعها ترتجف، وتنقش صوتها في نسيج الزمن. ويغلق الباب بقوة. تتكسر السطور مثل الأمواج، وتغمر الغرفة بالحقائق التي حاولنا نسيانها. لكنها هنا، ثقيلة كالرصاص. تشعر بها، أليس كذلك؟ الطريقة التي تلتصق بها بجلدك، تزحف، وتتسبب في الحكة اللذيذة . تهمس بالأسرار في تجاويف صدرك، أسرار لم يكن من المفترض أن تسمعها أبدًا. ومع ذلك، فهي هنا، ترفض الصمت.

تدق طبول الشعر بقوة. بسرعة. بسرعة أكبر. تجذبك الإيقاعات، تجرك عبر الشوارع المليئة بصرخات النيون. هل تسمعها؟ إنها مثل النار. إنها مثل الدم. ساخنة، نابضة. المدينة تهتز، ترتجف تحت وطأة صمتها.

الشعر، يا رجل - لا مكان له هنا، لم يعد موجودًا. إنه في لمسة الموبايل، وطنين الأسلاك. صفارة الإنذار تصرخ. ربما هذه هي القصيدة الجديدة. لا مزيد من المقاطع، لا مزيد من السطور. مجرد ضجيج. ضجيج يهز عظامك، ويجعل أسنانك تصطك. إنها موسيقى الجاز بدون ساكسفون، قصيدة بدون كلمات. أنت لست مستعدًا لهذا، أعدك. لكنه قادم. إنه هنا بالفعل. وأنت لا تعرف ذلك حتى.

في الأزقة، تختبئ الكلمات. هادئة. ساكنة. لكنها هناك، تحت أنفاس الريح. تضغط على جدران الزمن، تناضل من أجل التنفس. لم تعد بحاجة إلى مسرح، لم تعد بحاجة إلى تصفيق. إنها الأشياء الصغيرة الهادئة - صوت الأحذية، همهمة صوت الأم وهي تدندن لطفلها لينام. هذه هي القصائد التي بقيت. إنها تعيش في الفراغات بين الأصوات، في الشقوق حيث لا تشرق الشمس. تراها، أليس كذلك؟ لا حاجة للوصول إليها. ستجدك، مثل الظلال الراقصة عبر الرصيف، مثل الهمسات التي التقطتها نظرة غريب.

0 التعليقات: