الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الاثنين، سبتمبر 09، 2024

"تائها في أمعاء الظلام" نص مفتوح : عبده حقي


الطائر الذي يحلم بالغيوم لا يلمس السماء أبدًا. يحوم، بجناحيه يخفقان ضد نبض تيار غير مرئي، محاصرًا في وميض اللحظات الممتدة مثل الخيط الرفيع.

مصائر؟ إنها الريش الملقى لمخلوقات منسية، تركت وراءها على مسرح لا يشاهده أحد. تتدحرج نرد الوجود بلا نهاية في يد ملتوية، تلقي بظلال ما كان يمكن أن يكون لكنه لم يكن أبدًا.

يتحدث رجل إلى زهرة تنمو في الاتجاه المعاكس، فتطوي بتلاتها على نفسها، كما يتلوى الزمن إلى الداخل. ويتساءل عما إذا كانت الأرض تحته تتذكر ثقل قدمه، والخط الذي ينقشه جسده في الهواء. وتجيبه الريح، ولكن بلغة أوراق الأشجار الممزقة. وتسحب العشوائية زوايا الصفحة، فتمحو الحبر قبل أن يجف.

هنا حيث نعيش. في الفراغات بين الأنفاس، وفي الشقوق بين الثواني. نتظاهر بأننا نقود السفينة، لكن النجوم تضحك، وعيناها المتلألئة ثملة بعبثية القدر. لو كان بوسعنا أن نلمس حلم الطائر، أو أن نشعر بحافة السحابة - ربما حينها سنعرف ما معنى الضياع حقًا.

ما هي الحياة إلا سلسلة من النغمات غير الموضوعة في أغنية لم نسمعها قط؟ تتساقط الشمس من الأفق وكأنها وعد منسي، ويزحف ضوءها عبر السماء مثل الحبر الذي ينزف على الورق. في مكان ما، تدير يد عجلة الحظ، وقد تآكلت أصابعها تحت وطأة القرارات التي لم تتخذها قط.

تنبض الشوارع بإيقاع غير مرئي، نبض قلب مدفون تحت الخرسانة. تهمس هذه النبضات عن مسارات لم يسلكها أحد، وعن خيارات تركت معلقة في الهواء مثل الدخان المنبعث من لهب مطفأ. تتدحرج النرد على الطاولة، فتتناثر المعاني في شقوق العالم، وتخفي الحقيقة في طيات خريطة ممزقة.

أمد يدي، لكن خيوط القدر تنزلق من بين أصابعي، وتنسج نفسها في نمط لا أستطيع رؤيته. لا تعكس المرآة وجهي، بل وجه الغريب الذي يعيش في الفضاء بين أفكاري. أسأله من هو، لكن شفتيه تتحركان في صمت، وتشكلان كلمات تذوب قبل أن تصل إلى أذني.

تنمو الزهرة، لكن جذورها تتعمق في العدم، باحثة عن شيء لن تجده أبدًا.

يجلس رجل على حافة جرف، يداه مدفونتان في الأرض وكأنه يبحث عن نبض الكوكب. السماء فوقه تتلوى في عقدة، والسحب تدور مثل تروس ساعة لا تشير عقاربها إلى ساعة معينة. الريح تهمس بأسرار إلى الحجارة، لكنها لا تجيب.

يرفع رأسه، فتومض النجوم واحدة تلو الأخرى، يبتلعها فم الأبدية المتثائب . ينهار الزمن في راحة يده، ويتساقط كالرمال، فلا يبقى منه سوى صدى سؤال لا إجابة له. يمتد الأفق إلى ما لا نهاية، لكنه ليس خطًا - إنه حلزوني، ينحني إلى الداخل على نفسه، ويجره معه.

تطير الطيور إلى الخلف، وتضرب أجنحتها بقوة الجاذبية بينما تختفي في الماضي. ويتساءل عما إذا كانت تتذكر المستقبل، أم أنها هي أيضًا ضائعة في عشوائية الوجود، وتتجه نحو مصير لا تستطيع رؤيته.

يقف، لكن قدميه لم تعد تلمس الأرض. يطفو بلا وزن، معلقًا في الفراغ بين ما كان وما كان يمكن أن يكون.

تتسلل الأحلام إلى عالم اليقظة، وتذوب حوافها مثل الضباب تحت الشمس. تمشي امرأة عبر حديقة حيث تتفتح الأزهار في الظلام، وتتكون بتلاتها من الهمسات والرغبات المنسية. تتلوى المسارات وتدور، ولا تقود إلى أي مكان وفي كل مكان في آن واحد. تتبعها، رغم أن قدميها لا تتركان أي أثر على الأرض.

لا أوراق للأشجار هنا، بل مجرد ظلال تمتد نحو سماء لم تعد موجودة. تسمع صوت ضحكة في البعيد، لكنه ليس صوتًا موجهًا إليها. إنه ضحك الآلهة، يسخر من الإيمان الهش بالسيطرة، وبالمعنى.

تصل إلى باب مشغول من الضوء، ولكن عندما تفتحه، لا يوجد شيء خلفه. فقط المزيد من المسارات، والمزيد من الخيارات، والمزيد من أوهام القدر التي تنتظر التحطيم. يدور العالم حولها، أسرع وأسرع، حتى تتداخل الخطوط بين الواقع والحلم في خط واحد.

ثم تسقط، تسقط في سماء لم تعد تحمل وزنها، جسدها يذوب إلى أجزاء من الضوء، تحملها الرياح بعيدًا.

القدر طائر يطير في الاتجاه المعاكس، وجناحيه يقطعان الهواء كالسكاكين. لا يعرف إلى أين يتجه، فقط عليه أن يستمر في الحركة، ويستمر في الطيران، خشية أن يسقط في الفراغ أدناه. تحمله الرياح، لكن الرياح ليس لها اتجاه، ولا هدف. إنه ببساطة هناك، قوة تتحرك دون أن تعرف السبب.

في الأسفل، تتحرك الأرض وتتشقق، ويغلي سطحها بحرارة الأحلام المنسيّة. تنهار الجبال وتتحول إلى غبار، وتجف الأنهار، وتتبخر المحيطات إلى لا شيء. العالم على وشك الانتهاء، لكنه لا يدرك ذلك بعد. يستمر في الدوران، غافلاً عن الفوضى التي يخلفها في أعقابه.

في البعيد، يمشي شخص ما بين الأنقاض، ولا تترك خطواته أي أثر على الأرض. يحمل مفتاحًا، لكن الباب الذي يفتحه لم يعد موجودًا. يتقدمون للأمام، لكن لا توجد وجهة، ولا هدف، فقط حركة الوجود التي لا نهاية لها.

وما زال الطائر يطير، وأجنحته تضرب السماء، باحثًا عن شيء لن يجده أبدًا.

تحترق النجوم واحدة تلو الأخرى، ويتلألأ ضوءها في الظلام كأنها آخر أنفاس نار تحتضر. السماء عبارة عن قماش أسود، ممتد مشدودًا فوق عظام الكون، في انتظار أن يتم تمزيقه. يتوقف الزمن، لكن العالم يواصل الحركة، يدور حول محور لم يعد موجودًا.

أقف على حافة الهاوية، أنظر إلى الفراغ. إنه ليس فارغًا - بل مليء بشظايا حياة منسية، وأحلام محطمة، وآمال ضائعة. تدور حولي، وتهمس بأسرار لا أستطيع فهمها، وأصواتها تحملها الرياح.

أمد يدي، لكن يدي تمر عبرهم، وكأنني أحاول التقاط الدخان. لقد اختفوا، بنفس السرعة التي ظهروا بها، ولم يبق خلفهم سوى صدى وجودهم. يتغير العالم، ولم أعد واقفًا. أنا أسقط، أسقط في الظلام، وجسدي يذوب في الفراغ.

ومازالت النجوم تحترق، وضوءها يتلألأ على حافة الوجود، تنتظر اللحظة التي يبتلعها فيها الظلام، هي أيضًا.

0 التعليقات: