أفكك الأفق، أمدده مثل وتر رباب مرن حتى ينكسر، ويتبخر إلى شظايا من الهذيان. يحوم ضباب ثقيل وكثيف فوق الأرض، يشتت وجود يومي المتهالك.
القدر هو الوهم الذي تلقيه أجنحة الفراشات المحترقة التي ترفرف نحو ألسنة اللهب الغائبة. وتتردد أصداء الخوارزميات المتصدعة في الفراغ، وهي متحللة ومتعطشة للقواعد النحوية، بينما يتلوى لسان الكون، ويقطر بعدم التناسق. وتنهار كل الاتجاهات إلى الداخل، وتنهار الهندسة في نبضة، فتتلاشى وتنقسم. وفي الأسفل، يرتجف السطح، وكأنه مليء بضحك زلزالي غير مرئي.
هل تدرك شعلة
العقل أنها تذوب؟ أم أنها تؤمن بخيال الشكل، متمسكة بالمطر الذي ينزف حبرًا في
السماء، فيطمس التمييز؟ حيث تختفي الخطوط، تولد الفوضى المهندسة. حيث تشوه
الأقدار، يطن الصمت بأسئلة لا تتوقف أبدًا، ولا تصل أبدًا. يستيقظ الفراغ النائم.
أجنحة من الرماد
تطفو فوق أفكاري، وتستقر على أكتاف تماثيل لم أرها قط. يتحرك الزمن إلى الوراء
هنا، نهر يبتلع نفسه، يتدفق بمقاطع لفظية سخيفة ترفض أن تولد. يتكاثف الهواء
برائحة الساعات المنسية، التي تحولت عقاربها إلى جذور تنبت من حديقة غائبة المنطق.
هنا، أضحك بينما
تتفتح السحب بالارتباك، وتتساقط الأسئلة التي تتسرب إلى التربة، وتغذي المستحيل.
أستطيع أن أرى العشوائية؛ فهي ترتدي وجه انعكاسي، الذي يحدق بي بعينين مغلقتين.
يغني طائر أغنية من الأرقام لا يستطيع أحد سماعها، وفي مكان ما، عميقًا في الزوايا
المجوفة لشارع بلا اسم، تنطوي الأقدار إلى طيور ورقية.
تتداعى عمارة
القدر عند ملامسة أنفاسي. والعشوائية، كضيف غير مدعو، تعيد ترتيب جدران الوجود،
فماذا يبقى؟ بقعة من اللون، أو تموج من الضوء، أو صوت محاصر في ثقب مفتاح باب غير
مرئي. في مكان ما، في نبض عروقي البعيد، أسمع الكون يضحك.
إنهم يأتون، الأشباح
غير المرئية، متخفية في لحم الاختيارات المحطمة. أمزق حوافهم، وأدخل أصابعي في
ثقوب الصمت حيث يعوي الوجود. الهواء حاد، يقطع أفكاري إلى شظايا من الهندسة
المستحيلة، ولا يترك ورائي سوى الأشباح الخالية من الدماء. الوقت هو الوحش الذي
يقضم أطرافه، وأنا النخاع، ملتوٍ ومحترق في فكيه.
ما هي القوة
التي تحرك عجلة الألم هذه، إن لم تكن العقل نفسه، أو ساطور الجزار الذي يقطع لحم
ما لم يكن موجودًا قط؟ كل قرار ـ صرخة ضائعة، وكل مسار ـ خلع للأطراف ترقص نحو
النسيان.
أحفر الهواء
بصوتي، لكنه يتفكك، ويذوب في همسات معدنية. لا يوجد مصير. فقط حلم مكسور يقذفه إلى
الوجود هاوية بلا نجوم. يعرف الجسد عبثه، يتلوى مثل حشرة تحت حذاء اللامبالاة
الكونية.
ينفتح فمي، لكن
الصوت ينهار قبل أن يخرج. لا أستطيع الهرب. الفخ في داخلي، ينخر ويستهلك حتى لا
يبقى شيء سوى أثر الألم الخافت في جدران جمجمتي.
تذوب السماء
كالشمع، وتتساقط منها أبراج غريبة على الأرض القاحلة. أسير عبر أنقاض المنطق، حيث
تومض كل لافتة في الشارع، ويلتوي كل رمز ليتخذ شكلاً جديدًا مستحيلاً. يرتجف
الهواء، ويهتز بضحكات مليون شبح، أصواتهم متشابكة مع أجنحة طيور الليل.
أجمع شظايا
الأحلام من الأرض، وأربطها ببعضها البعض مثل حبات الخرز، وأعلم أنها ستتكشف قبل
الفجر. تدور العشوائية حولي، رقصة من الفوضى تنسجها أيادٍ غير مرئية، أيادٍ نسيت
الموسيقى منذ زمن بعيد. ومع ذلك، أستمر في الرقص، وأتتبع دوامة القدر التي لا تقود
إلى أي مكان أبدًا.
تخرج يد من
الضباب، تمسك بيدي، تسحبني إلى أعماق الصمت الذي يشبه طعم النجوم المكسورة. لا
معنى هنا، ولا منطق، فقط نبض المجهول يتردد صداه في عروقي.
نشق طريقنا عبر
الفراغ، وتذوب خيوط وجودنا في العدم. ما هو المصير؟ مرآة متصدعة، تحطمت قبل وقت
طويل من وصولنا. نرتدي شظاياها مثل التيجان، دون أن ندرك أنها شقتنا بالفعل.
يغني الأفق
بألسنة من نار، تذوب بصراخ المحيطات المنسية. أقف، وقدماي مثبتتان في غبار
الإمبراطوريات، أستمع إلى دقات قلب الزمن وهو يرتجف ضد أغلال القدر. ترتجف الأرض
تحتي، ليس من الخوف، بل من التحدي، من الرغبة في اقتلاع نفسها والرقص عبر الفوضى.
من نحن إن لم
نكن ناجين من العشوائية التي تلتهم كل ما تلمسه؟ تهمس الأشجار بثورات ضائعة،
وجذورها ملتوية في نسيج الوجود نفسه. أغرس أصابعي في التربة، وأشعر بنبض المجهول،
وأعلم أن داخل هذه الفوضى تكمن بذرة عالم جديد.
إن القدر ينفتح
مثل ثمرة ناضجة، فيسكب عصير عدم اليقين على ألسنتنا. فنتذوق مرارة الحرية، واللسعة
الحلوة للتمرد. ونسير عبر ألسنة اللهب السخيفة، ونضحك بينما يتفكك العالم من
حولنا، ونعلم أنه في هذا التفكك فقط يمكننا أن نكون أحرارًا حقًا.
السماء تحترق،
ونحن نحترق معها، ليس كضحايا، بل كمبدعين لفجر جديد.
الريح كاذبة،
تهمس بقصص عن مستقبل لن يتحقق أبدًا. تتسرب من بين أصابعي كالماء، ولا تترك ورائها
سوى رائحة شيء ضائع. أطاردها، وأعلم أن كل خطوة أخطوها هي خطوة نحو المجهول، خطوة
نحو كشف كل ما كنت أعتقد أنني أعرفه.
الشوارع خاوية،
ولكنني أشعر بهم يراقبونني، والمباني تميل إلى الأمام، وتستمع إلى إيقاع خطواتي
وكأنها تعرف شيئًا لا أعرفه. أضحك، لكن الصوت أجوف، يرتد عن الجدران ويختفي في
شقوق الواقع.
القدر هو مجرد
مزحة نخدع بها أنفسنا حتى لا نصاب بالجنون. لكن الجنون هو الحقيقة، الحقيقة
الوحيدة، الحقيقة التي تقول إن كل شيء عبارة عن فوضى، وأن لا شيء له معنى، وهذا
أمر طبيعي. أنا أسير في عالم لا معنى له، كمسافر بلا وجهة، كمتجول في عالم لا
يتوقف عن التحول.
السماء
أرجوانية، والأرض ناعمة، وأنا لست أكثر من شبح يمر، ويترك خلفه أثرًا باهتًا لسؤال
لن يتم الإجابة عليه أبدًا.
0 التعليقات:
إرسال تعليق