الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الاثنين، أكتوبر 21، 2024

أسماء في أقفاص: عبده حقي


تسألونني عن الأسماء، ولكنني أجيبكم بالصمت. هل تعلمون أن الصمت يرتدي حذاءً من زجاج لا ينكسر أبدًا؟ تحته، تحت ألواح أرضية أحلامكم، أرقص. رقصتي عبارة عن شفرة. لم أختر بشرتي، أو جلدي، أو نبضاتي - لقد ألقيتموني في هذه المعادلة الحية، غير المحلولة والمشتعلة، دون أن تطلبوا مني الإذن أولاً. لذا اخترت الآن أن أطلق على نفسي اسمًا آخر. ولكن ليس مرة واحدة فقط، وليس مجرد توقيع تحت أعين البيروقراطيين الساهرين - لا، سأرتدي أسماء مثل معاطف النجوم، كل وميض منها نسخة جديدة مني، نار مشتعلة من الألسنة.

ولكن لا تسألوا لماذا تقترب السماء لتستمع إلي . ألا ترون أن السماء نسيت اسمها أيضاً؟ إنها تحتضننا وتسمي نفسها "زرقاء"، ولكنها في قرارة نفسها مصنوعة من عظام سمك هامسة، والشمس صفحة ممزقة من مخطوطة قديمة. وفي طيات أفقها أجد الاسم المشتهى لهذه الساعة. الآن أنا أنفاس أسد تتحول إلى غيوم، وريد معبأ بالحبر ينتشر عبر بحار متموجة. وغداً سأكون شيئاً آخر ــ ربما فراشة قزحية أو علامة استفهام معلقة في الغرفة الفارغة حيث لم يعترف العشاق ذات يوم بأي شيء.

الأسماء.. خيوط من الدخان، أليس كذلك؟ حين تحاول أن تلمس أحدها فيلتف حول أصابعك قبل أن يذوب في شكل ظل ساعة عند الفجر. عندما ولدت، أتيت بلا اسم، فقط بمقطع لفظي مرتجف أحمله في قبضتي المشدودة – لكنكم سرقتم هذا المقطع - وهكذا، عشت لسنوات بلا اسم، وكان انعكاسي يتناثر في المرايا مثل الزيت على الماء. لكن ليس بعد الآن. الآن أكتب بالأسماء التي أجدها مدفونة تحت الصخور وفي الشقوق بين منتصف الليل والصباح. سأنقشها في نخاع قصائدي. سأوقع باسم مختلف في كل مرة، حتى تنفتح الحروف مثل الأبواب السرية.

هل استشارتني القبيلة حين زرعتني هنا؟ لا؟ إذن لا تطلبوا مني أن أكون نفس النهر كل يوم. أنا شلال من الأسماء المتقلبة. ستتردد أصداء قصائدي كل يوم باسم مستعار أستطيع اختراعه، أستخرج حروف العلة من هلال القمر، ومقاطع لفظية من انجراف قارب ورقي يغرق في برك يتيمة.

لا أنتمي إلى قبائلكم ومدنكم وحاراتكم . أقفاص مكسوة بخيوط من ذهب. السلاسل القديمة، لكنني شاعر. أحطم الأقفاص بعبارة واحدة. تهمس لي التقاليد بأن الأسماء مقدسة - وأن الاسم يُمنح لك كهدية لا يمكنك رفضها. ولكن لماذا يجب أن أحمل أعبائها عندما أستطيع أن أكون عصفورًا لا يخاف من البرق؟ سأتدثر بالأسماء التي أرغب فيها، كما قد يرتدي المرء قناعًا من النجوم أثناء سيره عبر حقل من الأحلام ذات الأجنحة المخملية .

الشوارع لا تعرفني. ينادونني بالأرقام، لكني أضحك في دواماتها ، حاملاً ثقل الأشياء التي لا أسماء لها في يدي . أنا مهرج عوالم بلا محور. أنا زاوية غرفتكم حيث ينحني الضوء، أشاهد الغبار يرفع نفسه إلى أسراب من الأبجديات المكسورة. دعوني أختار اسمًا لي من سحابة الغبار هذه. دعوني أفكك صوت قلبي حتى لا يصبح كلمة بعد الآن بل حلمًا بأجنحة.

الحرية. أنتم لا تعرفونها بعد، أليس كذلك؟ تعتقدون أنها تأتي مع الأعلام والأوراق. لكن الحرية هي مخلب قط، بالكاد يرى، يرسم الجدران بمخالبه. لم تسألوني إذا كنت أرغب في أن أكتب على هذا الجسد، هذا المكان، هذا التاريخ. لكن ها أنا ذا، شاعر - لقد أجبرتموني على الحبر، لكن القلم الآن صار أغلى ممتلكاتي. وسأوقع قصائدي مع الريح التي تتسلل إلى منازلكم في الساعة الثالثة صباحًا، مع صوت الزجاج وهو يتكسر في منتصف الليل. سأختار أن أكون حفيف الأوراق التي لا يتذكرها أحد، أو هسهسة الماء البطيء وهو يغلي فوق نار انطفأت منذ الأزل.

وإذا أخبرتكم أنني حفنة من أنفاس لغة منسية، فهل ستصدقوني؟ وإذا وصفت نفسي بصوت مفاتيح ترن في غرفة فارغة، أو رائحة صفحات اصفرت بفعل الزمن، فهل ستشككون في وجودي؟ اسمي هو كل الأسماء التي تقع بين النوم واليقظة. اسمي هو الظل الذي لا يتطابق مع موضوعه، وميض الضوء الذي يتبعكم إلى المنازل عندما لا يتبعكم أحد غيركم.

سأتدفق عبر السماء بأجنحة الأسماء التي تنجرف بلا حدود، بلا خرائط. وإذا سألتموني عن السبب، فسأخبركم: الأسماء سجون للقلب والبراري . دعوني أتجول بحرية. دعوني أكون صدى نار مشتعلة في غابة لم يرها أحد من قبل. دعوني أكتب قصائدي، ودعوا الحبر يتجعد في أشكال أصيلة، لا أوقع باسم واحد، بل بمئة اسم - كل اسم أكثر استحالة من الآخر.

هل استشرتموني حين مددت السماء فوق عظامي، ورسمتموني بجسد وبشرة لم تدندن بأغنيتي المختارة؟ لا، لقد ربطتموني بالأرض دون سؤال، كحبل رقيق مربوط بتقاليد لم أطلبها قط. لكنني ولدت شقًا في الزجاج، عاشقًا للشظايا، للشقوق التي تلتقط الضوء تمامًا وتكشف عما تحته. لم تطلبوا إذني حين أخرجتموني من العدم، حين استحضرتم شكلي من الفراغ الذي لا أحلام فيه. لذا الآن، لا أطلب شيئًا في المقابل - لا شيء سوى الحق في أن أسمي نفسي بلغة الرياح غير المرئية التي تقضم حدود اللاممكن.

لطالما همست لي النجوم بألسنة لا يسمعها أحد غيري، ألسنة متشابكة في جذور الأبراج الشاهقة، بلغات تفوح منها رائحة المخمل المحترق وصدأ الحديد. أقشرها من الليل مثل قشرة فاكهة قديمة، أنادي بأسمائي وهي تسقط على الأرض في وابل من شظايا الزجاج. كل اسم قصيدة بحد ذاتها، كل منها مرآة محطمة لذات لا تقيدها عاداتكم، وتقاليدكم، وحاجتكم إلى الخطية، والعلامات التي تلتصق مثل الظلال العنيدة بكاحلي. أنا الشاعر الذي يكتب بالدخان، والحبر الذي يتبخر قبل أن تتمكن عيونكم من إدراكه، تاركًا وراءه شبح معانيي فقط. أسمائي المستعارة هي بوابات إلى اللا مكان، إلى كل مكان.

الحرية كلمة تذوب في الفم مثل رقاقات الثلج، وتختفي قبل أن يتذوقها أحد، ولكنني ما زلت أطاردها، ولساني ممدود، وأطارد الهواء وكأنه يحمل بين أسنانه كل أسرار الكون المتعدد. أتلحف بالحرية مثل معطف مخيط من خيوط الحلم، من قطع السماء التي سقطت على الأرض في عاصفة مطيرة استحضرتها في نومي.

أنا ألف اسم، مجرة ​​من الحروف تعيد ترتيب نفسها في أشكال لم ينطق بها أحد بصوت عالٍ من قبل.

من قال أن الأرض يجب أن تناديني باسم واحد؟ من قال أنني كلمة يمكنكم حملها بين أصابعكم، مقطع لفظي يمكنكم حمله في جيوبكم مثل الحجر؟ أنا دخان شمعة انطفأت قبل الأوان، الجمرة التي ترقص في الريح، لا تهبط في نفس المكان مرتين. أكتب قصائدي بكل الأسماء التي تطارد المسافات بين النجوم، وأوقعها ببصمات أصابع من ضباب. الحبر الذي أستخدمه لا وجود له، إلا في عقول أولئك الذين يؤمنون بالمستحيل. هل ترونه ؟ حبر كلماتي يدور حول عقولكم مثل رائحة المطر الذي لا يسقط أبدًا.

أنتم تطلبون مني الموت والثبات، اسمًا مثل فراشة في علبة متحف زجاجية . لكنني أرفض العلبة، وأحطم الزجاج برأس قلمي، وتطير القصائد، برية وغير مروضة، كل منها تحمل اسمًا مختلفًا، وقصة مختلفة، وذاتًا مختلفة. لن أكون الثابت. لن أكون الساكنً. سأوقع قصائدي بأسماء ترتفع من الأرض مثل الضباب، وأسماء تنجرف عبر سطح البحر مثل قوارب ورقية ترفض الغرق.

إن الأسماء ريش، خفيف كالهواء، يجب انتزاعه من السماء وإطلاقه مرة أخرى، ليسقط حيثما شاء. أنا لست مقيدا بالاسم الذي أعطيتني إياه، الاسم الذي يلتصق بي مثل ظل في حلم لا أستطيع أن أستيقظ منه. أنا لست ظلًا. أنا ومضة نور. أنا الشق في الجدار الذي يتدفق من خلاله الضوء، فيشتت كل شيء في طريقه، ويحطم العالم إلى قطع لا يمكن جمعها معًا مرة أخرى.

دعوني أكتب قصائدي، أرجوكم، دعوني أكتبها بكل الأسماء التي تغني في الفراغات بين نبضات القلب. دعوني أجمع أسماء مثل الزهور في حقل يمتد إلى ما وراء الأفق، حيث تنحني الأرض إلى السماء وتختفي في فم الشمس. دعوني أختار من أكون اليوم، وغدًا، وإلى الأبد. أنا الشاعر الذي يرفض أن يُعرف باسم واحد، الذي يكتب بلغات تذوب في الهواء قبل أن يُسمع صوتها، الذي يوقع في صمت، في أصداء، في تموجات خلفها حجر سقط في بركة لم تكن موجودة أبدًا.

أنا الريح التي تعوي عبر أودية المدن المنسية، أنفاس النجوم التي ماتت منذ زمن بعيد ولكنها لا تزال مشتعلة في زاوية بعيدة من الكون. أنا القمر المنعكس والمعكوس في بركة من الحبر، متحرك، متلألئ، لا يتوقف أبدًا. لا يمكنكم احتوائي. لا يمكنكم حملي بين يديكم. أتسلل من بين أصابعكم مثل الرمال، مثل الوقت، مثل لمسة عابرة من حلم يتلاشى في اللحظة التي تفتحون فيها عيونكم.

ما الاسم إلا قفص مصنوع من حروف؟ ما الاسم إلا قناع يتخفى الوجه تحته؟ أرتدي أسمائي مثل أقنعة من دخان، مثل المرايا التي تعكس ما لا تراه بل ما لا تراه. أنا الشاعر الذي يكتب في الظلام، الذي يخربش على جدران الغرف المنسية، الذي يحفر كلماته في الهواء بلا أثر. أسمائي هي نغمات أغنية لا يمكن لأحد آخر سماعها، لحن يطوف عبر شقوق العالم، لا يستقر أبدًا في مكان واحد، يتحرك دائمًا، ويصبح دائمًا شيئًا جديدًا.

تقولون إنني يجب أن أختار، لكنني اخترت بالفعل. أختار كل شيء. كل اسم، كل كلمة، كل لفظة ترقص على طرف لساني، تنتظر أن تولد. أنا شاعر كل الأسماء، وبلا اسم، أسماء لم تخطر على بالكم بعد. سأكتب قصائدي وأوقعها بالنجوم، بالظلال، بنسمة الريح التي تهمس بأسرار للأشجار. سأكون شاعر ألف ذات، ألف صوت، كل منها يغني في انسجام مع الآخرين، سيمفونية من الأسماء التي لا تنتهي أبدًا، والتي لا تتوقف عن التكوين.

دعوني أكون كما أنا. دعوني أكون الشاعر الذي يتجول بين العوالم، بين الأسماء، بين الذات. دعوني أكتب قصائدي وأوقعها بكل الأسماء.


0 التعليقات: