إن اليوم العالمي لإنهاء الإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين في عام 2024 يعتبر لحظة حاسمة لتقليب مواجع الظلم والعنف ضد أولئك الجنود الإعلاميين الذين يخاطرون بحياتهم للإبلاغ عن الحقيقة كيفما كان شكلها وغايتها.
يتمحور الاحتفاء بهذا اليوم في هذا العام، الذي يستضيفه مقر الاتحاد الأفريقي في أديس أبابا، إثيوبيا، بالتعاون مع اليونسكو، حول موضوع "سلامة الصحفيين في الأزمات والطوارئ". مع الذكرى السنوية لإنشاء IDEI قبل عقد من الزمان والذكرى السنوية العشرين لولاية المقرر الخاص للجنة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب بشأن حرية التعبير والوصول إلى المعلومات حيث يعتبر عام 2024 دعوة عاجلة للتحرك . ومع ذلك، بعيدًا عن مكاتب هذه الجمعية الدبلوماسية، يتحمل الصحفيون على الخطوط الأمامية القمع العنيف والمضايقات القانونية وحتى الموت في سعيهم وراء الحقيقة.
ففي البلدان التي تفرض
قيوداً صارمة على حرية الصحافة، يكون الصحافيون عُرضة بشكل خاص لقمع الأجهزة
الحاكمة. فالجزائر، على سبيل المثال، تتخذ إجراءات متسرعة وصارمة باستمرار ضد الصحافيين،
وخاصة أولئك الذين ينتقدون الحكومة أو يغطون مواضيع حساسة متعلقة بالفساد. ويتعرض الناشطون
والمراسلون للاحتجاز بشكل روتيني بحجة "تهديد الوحدة الوطنية" أو "الترويج
لأجندات أجنبية". ويواجه الصحافيون في تندوف، وهو مركز احتجاز في المنطقة الصحراوية،
مراقبة مستمرة، مع التهديد بالنفي أو السجن إذا كان عملهم يهدد ممارسات جماعة
بوليساريو. والواقع أن القيود المفروضة على الوصول إلى المنطقة، وقنوات الاتصال المحدودة،
والخطر الدائم المتمثل في اتخاذ إجراءات عقابية تجعل من التقارير الصادقة أمراً شبه
مستحيل.
وفي تونس، وعلى الرغم
من تاريخ حركات حرية الصحافة، تصاعدت الضغوط الحكومية على وسائل الإعلام، حيث يواجه
الصحفيون الاحتجاز والملاحقة القضائية بموجب قوانين غامضة . وفي العام الماضي فقط،
ظهرت تقارير عن اعتقال صحفيين لأسباب بعيدة كل البعد عن الشرعية، مثل تغطية الاحتجاجات
أو انتقاد أسلوب تدبير السلطة لدى الرئيس قيس سعيد. وقد دفع هذا الترهيب العديد من
المراسلين إلى ممارسة الرقابة الذاتية أو حتى التخلي عن مهنتهم لتجنب المخاطر المتزايدة.
أما في فلسطين
الجريحة، تشكل مهنة الصحافة خطراً استثنائياً بسبب الصراع المستمر. فالصحفيون الفلسطينيون
يقدمون تقاريرهم من مناطق الحرب المشتعلة في قطاع غزة، ويخاطرون بحياتهم لأنهم غالباً
ما يجدون أنفسهم محاصرين بين فيالق القوات الإسرائيلية . وقد أصيب العديد من الصحفيين
أو قُتلوا أثناء أداء واجبهم، وكثيراً ما فشلت الاستجابة الدولية في إدانة هذه الفظائع
أو منعها.
من جانبها تواجه أمريكا
اللاتينية مجموعة مرعبة من التهديدات، وخاصة في بلدان مثل المكسيك والبرازيل والأرجنتين.
ففي المكسيك، على سبيل المثال، لا يستهدف الصحفيون القوات المحلية فحسب، بل أيضًا المنظمات
الإجرامية القوية التي تسعى إلى السيطرة على الأخبار حول تجارة المخدرات والفساد السياسي.
فقد قُتل أكثر من مائة صحفي في العقدين الماضيين في المكسيك، مع ارتفاع حاد في الوفيات
بسبب عنف العصابات والتواطؤ الحكومي. كما أصبحت البرازيل أيضًا شديدة الخطورة بشكل
متزايد على الصحفيين الذين يغطون مافيات إقتلاع الغابات وحقوق السكان الأصليين. وتتفاقم
التهديدات التي يواجهونها بسبب حملات التشهير من قبل شخصيات نافذة في السلطة، بما في
ذلك السياسيين، مما أدى إلى ثقافة الإفلات من العقاب حيث يواجه المعتدون عواقب طفيفة،
إن وجدت.
إن هذه الحقائق تكشف
عن الحاجة الملحة إلى اتخاذ تدابير لحماية الصحفيين من الانتقام السياسي والجنائي.
فالدول التي لا يتوفر فيها سوى الحد الأدنى من آليات المساءلة تصبح مقابر لحرية الصحافة
بكل تأكيد، حيث يتحول مطاردوا الحقيقة إلى سجناء أو منفيين أو ما هو أسوأ من ذلك.
إن هذا العام يصادف
مرور عقد من الزمان منذ إعلان الأمم المتحدة في عام 2014 عن يوم 2 نوفمبر باعتباره
اليوم العالمي للصحافة، والذي يهدف إلى التصدي للعنف والقمع ضد الصحفيين في جميع أنحاء
العالم. وفي حين لفت هذا اليوم الانتباه إلى سلامة الصحافة والإفلات من العقاب، تظل
الإحصائيات قاتمة . فوفقًا لليونسكو، فقد قُتل أكثر من 1500 صحفي على مدار العقد الماضي،
ويواجه الكثيرون التعذيب والتهديد والسجن. ومع ذلك، لا يزال أكثر من 85٪ من هذه الجرائم
دون حل، ونادرًا ما يتم تقديم الجناة إلى العدالة.
إن الاحتفال العالمي
بهذه الذكرى في أديس أبابا يتضمن مناقشات استراتيجية وورشات عمل موجهة نحو العمل الجدي
وإطلاق خطط عمل قارية لمعالجة هذه الاتجاهات العنيفة. ولكن في حين أن هذا الحدث يعمل
كمنصة قيمة للتوعية، فإنه يجب أن يفعل أكثر من مجرد تقديم إيماءات رمزية. إن زيادة
التمويل والتدابير القانونية العملية والقرارات الملزمة التي تفرض الحماية للصحفيين
ضرورية لجعل هذا الحدث فعالاً حقًا.
إن "يوم العمل"
الذي سينظمه الاتحاد الأفريقي واليونسكو في السابع من نوفمبر 2024 يعد بتنظيم ورشات
عمل واجتماعات استراتيجية وتدريبات مفيدة وهامة للغاية. وهذه المبادرات حيوية، وخاصة
بالنسبة للصحفيين من المناطق التي تعاني من أوضاع مزرية في حرية الصحافة، ولكن فعاليتها
محدودة إذا كان المشاركون يفتقرون إلى القوة أو الموارد اللازمة لإحداث تغيير ذي مغزى
عند عودتهم إلى ديارهم. ولسد هذه الفجوة، يتعين على الهيئات الدولية توفير الموارد
المالية، والحماية القابلة للتنفيذ، والتحالفات التي تحمي الصحفيين بغض النظر عن مكان
وجودهم.
ومن جانب آخر وعلى
النقيض من الدول المجاورة في المغرب الكبير وشمال إفريقيا ، فقد شهد المغرب مؤخراً
تحسنا لافتا في هامش حرية الصحافة. إن الجهود الأخيرة لتوسيع حرية الصحافة جديرة
بالملاحظة والتنويه وتعد بمستقبل مطمئن. فقد أطلقت حوارات أكثر انفتاحاً حول بعض المواضيع
الحساسة.
وقد أصدر الملك محمد السادس يوم 29 يوليو
2024 أمرا بالعفو عن ناشطين وصحفيين بارزين على رأسهم عمر الراضي وتوفيق بوعشرين، وسليمان
الريسوني، بعد سنوات من السجن بتهم ادعوا إنها "قضايا مفبركة" على خلفية
عملهم الصحفي. وقد ضم الاتحاد الدولي للصحفيين صوته للنقابة الوطنية للصحافة المغربية
في الترحيب بالإفراج عن الصحفيين الثلاثة، ودعا السلطات المغربية إلى المزيد من دعم
آليات حرية الصحافة.
وقد تم إطلاق سراح
عمر الراضي وتوفيق بوعشرين وسليمان الريسوني عشية الاحتفاء بالذكرى الخامسة والعشرين
لتولي الملك محمد السادس العرش.
ولكبح جماح الإفلات
من العقاب، يتعين على المؤسسات العالمية أن تفكر في اتخاذ إجراءات جريئة وقابلة للتنفيذ.
وبالإضافة إلى الأحداث التذكارية، يتعين على اليونسكو والاتحاد الأفريقي وغيرهما التعاون
في وضع سياسات تسمح للصحفيين بالعمل دون خوف من الانتقام. ومن بين المقترحات الممكنة
إنشاء هيئة تحقيق دولية مخصصة لملاحقة الجرائم ضد الصحفيين، على غرار المحكمة الجنائية
الدولية ولكنها تركز بشكل خاص على الظلم المرتبط بوسائل الإعلام. ومن الممكن أن تعمل
مثل هذه المنظمة جنباً إلى جنب مع الحكومات الوطنية لملاحقة الجرائم، وممارسة الضغوط
على الدول التي تفشل في حماية الصحفيين، وتوفير الموارد الطارئة للصحفيين الذين يواجهون
خطراً وشيكاً.
كما ينبغي توسيع نطاق
برامج التدريب والمساعدة القانونية لتقديم الدعم الملموس للصحفيين في مختلف أنحاء العالم.
ومن الممكن أن تساعد الموارد مثل صناديق الدفاع القانوني، وفرق الاستجابة السريعة لعمليات
الإخلاء في حالات الطوارئ، وقنوات الإبلاغ المجهولة، الصحفيين على مواصلة عملهم دون
خوف من الانتقام. وتتطلب هذه التغييرات تمويلاً مستداماً والتزاماً دولياً بحرية الصحافة
يتجاوز مجرد الإيماءات الرمزية.
وبينما يجتمع زعماء
العالم والناشطون والصحفيون لإحياء ذكرى IDEI،
يتعين على المجتمع العالمي أن يضمن أن هذا الحدث لا يرمز إلى التغيير فحسب؛ بل يجب
أن يشعل منارته الدولية. إن الإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين يشكل
انتهاكًا لحقوق الإنسان وتهديدًا للديمقراطية. وتظل الصحافة الحرة واحدة من أقوى الأدوات
للمساءلة والعدالة والحقيقة. ومن خلال العمل الجماعي والحماية القانونية والدعم الثابت
فقط يمكننا خلق عالم حيث يمكن للصحفيين الإبلاغ دون خوف، وحيث يتم وضع حد للإفلات من
العقاب أخيرًا.
0 التعليقات:
إرسال تعليق