بقلم عبد الإله بلقزيز، رمز الثقافة العربية 2024
ما الذي يفصل بين الثقافة والمعرفة والأيديولوجية؟ هذه المفاهيم، على الرغم من كونها جزءًا لا يتجزأ من التجربة الإنسانية، غالبًا ما يتم تفسيرها بشكل خاطئ أو التعامل معها على أنها قابلة للتبادل. يغوص عبد الإله بلقزيز، الفيلسوف والأكاديمي المغربي الشهير،
عميقًا في هذه المتاهة الفكرية لتوضيح هذه المفاهيم، وتوضيح التمييز بينها، ومعالجة التفاعل المعقد بينها داخل التقليد الفكري العربي. لا يستكشف عمله جوهر هذه المصطلحات فحسب، بل يفحص أيضًا أهميتها في تشكيل الفكر والمجتمع العربي.عبد الإله بلقزيز،
الذي كرمته المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو) في عام 2024 باعتباره
رمزًا للثقافة العربية، كان لفترة طويلة شخصية بارزة في الفلسفة العربية. وهو باحث
حاصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة وأستاذ في جامعة الحسن الثاني في المغرب، ألف بلقزيز
العديد من الأعمال في الفلسفة والدراسات الإسلامية والفكر العربي المعاصر. إن مساعيه
الفكرية، التي تتجذر بعمق في السياقات الثقافية والتاريخية العربية، تتحدى الافتراضات
السائدة وتثير خطابًا نقديًا حول القوانين النظرية التي تدعم العلوم الاجتماعية والإنسانية
في العالم العربي.
للوهلة الأولى، قد
تبدو الثقافة والمعرفة والأيديولوجية مفاهيم مترابطة أو مترادفة. وكثيراً ما تتقاطع
هذه المفاهيم في تطبيقاتها وتأثيرها، إلا أن كل منها يحمل أسساً نظرية مميزة. ويسعى
بلقزيز إلى كشف هذه الروابط والاختلافات، مؤكداً على ضرورة الوضوح عند التعامل مع هذه
المصطلحات في الخطاب الفكري.
إن الثقافة، كما يوضح
بلقزيز، هي الأوسع والأكثر شمولاً بين هذه الأنواع الثلاثة. فهي تشمل مجموع أشكال التعبير
الإنساني: اللغة والفن والتقاليد والعادات والقيم المشتركة. والثقافة كيان حي، ديناميكي
ومتطور باستمرار، يتشكل من خلال التجارب التاريخية والسياقات الجغرافية والتفاعلات
الاجتماعية. وبالنسبة لبلقزيز، فإن الثقافة هي اللوحة التي تُنقش عليها المعرفة والأيديولوجية
الإنسانية، وتؤثر عليها وتتأثر بها بدورها.
من ناحية أخرى، فإن
المعرفة أكثر تحديداً ومنهجية. فهي تشير إلى تراكم المعلومات والنظريات والأدلة التجريبية
التي يطورها البشر لفهم العالم من حولهم. وتتميز المعرفة بسعيها إلى الموضوعية، واعتمادها
على الملاحظة والعقل، والتزامها بالحقيقة. ومع ذلك، كما يحذر بلقزيز، فإن المعرفة ليست
محصنة ضد التحيزات الثقافية أو الإيديولوجية. إن الطرق التي يتم بها إنتاج المعرفة
ونشرها واستهلاكها غالباً ما تتشكل من خلال الأطر الثقافية والإيديولوجية للمجتمع الذي
تنشأ فيه.
إن الإيديولوجية تتميز
عن غيرها من الأشكال الثلاثة بأنها الأكثر إثارة للجدال والشحنة السياسية. وهي تشير
إلى نظام من الأفكار والمعتقدات والقيم التي تعكس وتخدم مصالح مجموعات أو طبقات اجتماعية
معينة. والإيديولوجية بطبيعتها معيارية؛ فهي لا تسعى إلى تفسير العالم فحسب، بل تسعى
أيضاً إلى تشكيله وفقاً لرؤى محددة للعدالة والسلطة والتقدم. وينتقد بلقزيز الطرق التي
تتخفى بها الإيديولوجية في كثير من الأحيان في هيئة معرفة موضوعية أو تقليد ثقافي،
فتحجب دورها كأداة للسلطة والسيطرة.
في التاريخ الفكري
العربي، كان التفاعل بين الثقافة والمعرفة والأيديولوجية محفوفاً بالمخاطر بشكل خاص.
يتتبع بلقزيز تطور هذه المفاهيم من خلال لحظات رئيسية في الفكر العربي، من التقاليد
الإسلامية الكلاسيكية إلى الحركات الحداثية في القرن العشرين والمناقشات المعاصرة اليوم.
ويسلط الضوء على الكيفية التي تعامل بها المفكرون العرب مع هذه المصطلحات استجابة للسياقات
السياسية والاجتماعية والثقافية المتغيرة.
على سبيل المثال، في
الفترة الإسلامية الكلاسيكية، كانت المعرفة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالبحث الديني والفلسفي،
حيث استكشف علماء مثل الفارابي وابن خلدون طبيعة المعرفة في إطار ثقافي إسلامي. خلال
هذا الوقت، كانت الثقافة والمعرفة متناغمتين إلى حد كبير، حيث لعبت الأيديولوجية دورًا
ثانويًا كوسيلة للتعبير عن القيم الدينية والأخلاقية.
ولكن في الحقبتين الاستعمارية
وما بعد الاستعمارية، تحول التوازن. فقد احتلت الإيديولوجية مركز الصدارة في سعي المثقفين
العرب إلى الاستجابة لتحديات الإمبريالية والقومية والتحديث. وانخرطت شخصيات مثل طه
حسين في مناقشات شرسة حول الهوية الثقافية للعالم العربي، ودور المعرفة في التنمية
الوطنية، والأسس الإيديولوجية للوحدة العربية. وكثيراً ما كشفت هذه المناقشات عن التوترات
والتناقضات بين التطلعات العالمية للمعرفة والمطالبات الخاصة للثقافة والإيديولوجية.
ويرى بلقزيز أن هذه
التوترات تفاقمت في العصر الحديث. فقد خلقت العولمة والتكنولوجيا الرقمية وتفتت الحياة
السياسية والاجتماعية تحديات جديدة للإنتاج الفكري العربي. وتتشابك الثقافة والمعرفة
والأيديولوجية على نحو متزايد بطرق تحجب تميزها وتعقد تطبيقها. ويدعو بلقزيز إلى بذل
جهود متجددة لنظرة نظرية إلى هذه المفاهيم، ليس باعتبارها كيانات مجردة أو معزولة،
بل باعتبارها قوى ديناميكية ومترابطة تشكل وتتشكل من خلال الواقع المعاش للمجتمعات
العربية.
إن استكشاف بلقزيز
للثقافة والمعرفة والأيديولوجية ليس مجرد تمرين أكاديمي؛ بل هو دعوة إلى العمل. ومن
خلال توضيح الفوارق بين هذه المفاهيم، يدعو بلقزيز المثقفين العرب إلى فحص أسس فكرهم
بشكل نقدي وتحدي الافتراضات التي تدعم أعمالهم. وهذا مهم بشكل خاص في عالم حيث تهدد
الاستقطاب الإيديولوجي والتجانس الثقافي بتقويض ثراء وتنوع المعرفة الإنسانية.
وعلاوة على ذلك، يؤكد
عمل بلقزيز على أهمية وضع هذه المفاهيم في سياقاتها التاريخية والثقافية. فهو يذكرنا
بأن الثقافة ليست قطعة أثرية ثابتة بل هي عملية حية؛ وأن المعرفة ليست حقيقة عالمية
بل ممارسة قائمة؛ وأن الإيديولوجية ليست إطاراً محايداً بل هي أرض متنازع عليها بين
السلطة والمقاومة. ومن خلال معالجة هذه التعقيدات، يساهم بلقزيز في فهم أعمق للتحديات
وإمكانيات الإنتاج الفكري في العالم العربي وخارجه.
يظل عبد الإله بلقزيز
رمزًا للثقافة العربية في عام 2024، ليس فقط بسبب إنجازاته العلمية ولكن أيضًا بسبب
التزامه بالبحث النقدي والدقة الفكرية. إن عمله في الثقافة والمعرفة والأيديولوجية
يتحدانا للتفكير بشكل أعمق وأكثر دقة في الأفكار التي تشكل عالمنا. من خلال الانخراط
في أفكاره، نتذكر قوة الفكر في التنوير والتساؤل وفي النهاية التحول. في وقت من عدم
اليقين والتغيير، تقدم رؤية بلقزيز منارة أمل لمستقبل الحياة الفكرية والثقافية العربية.
0 التعليقات:
إرسال تعليق