لمدة سبع سنوات، كانت الجزائر طرفا تفضيليا من "خيارات غونكور". لقد تم إنشاؤها بمبادرة من المعهد الفرنسي في الجزائر، ومرة أخرى مع أكاديمية غونكور، وهي تجمع حوالي مائة قارئ جزائري شاب، معظمهم من طلاب المدارس الثانوية. وواصل عدد المدن المشاركة في هذا الحدث ارتفاعه حيث تم تمثيل عشر مدن هذه السنة (عنابة والجزائر وباتنة وبجاية وقسنطينة ووهران وتيارت ومسكرة وسعيدة وتلمسان) في جائزة تجذب الكثير من الاهتمام في المشهد الأدبي والأكاديمي الجزائري. ويتم التصويت بالتنسيق مع المكتبات الإعلامية للفروع الخمسة للمعهد الفرنسي بالجزائر.
وفي تحول دراماتيكي
مفاجئ ، اهتز عالم الأدب أمس الثلاثاء 3 ديسمبر2024 عندما أعلنت أكاديمية غونكور المرموقة
تعليق جائزة "غونكور الجزائر " الدولية لهذا العام . وجاء هذا القرار ردا
على حظر الحكومة الجزائرية لرواية " حوريات " للكاتب كمال داود ، وهي الخطوة
التي أشعلت نقاشات شرسة حول تضييق الرقابة، وتقاطع الأدب والسياسة، والتعقيدات الثقافية
في بلد المليون ونصف شهيد . ولم يعطل هذا التطور غير المتوقع مسار تقليد أدبي مؤثر
فحسب، بل ألقى الضوء أيضا على العلاقة المتوترة بين الجزائر وشتاتها الفكري في
الخارج وخصوصا في فرنسا.
إن مبادرة "اختيار
غونكور"، التي أطلقتها أكاديمية غونكور قبل سنوات، تهدف إلى توسيع نطاق الجائزة
الأدبية الفرنسية الأكثر شهرة في العالم . ومن خلال إشراك أكثر من 40 دولة ــ من بولندا
إلى الكاميرون وفيتنام وما وراء ذلك ــ تعمل هذه المبادرة على تعزيز الحوار الأدبي
بين الثقافات في العالم حيث تقوم كل دولة بتشكيل لجان، تتألف غالبا من الطلاب تحت إشراف
مؤسسات ثقافية فرنسية، للتفاعل مع اختيارات الجولة الأولى من جائزة غونكور وتحديد الأعمال
التي تلقى أصداء جيدة محلية. ويبدو أن الجزائر، وهي دولة تربطها علاقات تاريخية عميقة
بفرنسا وتتمتع بتقاليد أدبية غنية، كانت مشاركا طبيعيا في هذه المبادرة العالمية. ومع
ذلك، فقد كشف هذا النقاش الأخير عن التوترات المعقدة التي تكمن وراء علاقة الجزائر
بتراثها الأدبي وشبكاتها الأدبية العالمية.
في قلب هذا الجدل يكمن
صوت الروائي كمال داود، وهو مؤلف جزائري شهير غالبًا ما تبحر أعماله في تضاريس فكرية
محفوفة بالمخاطر من الهوية والتاريخ والنقد ما بعد الكولونيالي. لقد اكتسب كمال
داود هذا شهرة دولية بروايته "مورسو، التحقيق المضاد" ، وهي تتقاطع مع رواية
"الغريب" لألبير كامو . وفي حين ترك عمل كامو الضحية العربية بلا اسم وبلا
صوت، استعادت رواية كمال داود السرد من جديد ، وأعطت الضحية اسمًا وتاريخًا وعائلة.
وقد جعله نقده المؤثر للإرث الاستعماري واستكشافه للهوية الجزائرية رمزًا أدبيًا وضربة
صاعقة للجدل في نفس الوقت.
إن حظر أحدث أعمال
كمال داود في الجزائر يعكس تحديات اجتماعية وسياسية على أوسع نطاق . فالأدب في الجزائر
غالبا ما يكون ساحة معركة للرؤى المتنافسة للهوية الوطنية. وفي حين تفتخر الجزائر بتقاليدها
بالتميز الأدبي، الذي تجسده أسماء كبيرة مثل كاتب ياسين وآسيا جبار، فإنها تتصارع أيضا
مع إرث استعماري سميك، وعلاقة معقدة مع شتاتها في الخارج ، ومناقشات مستمرة حول حرية
التعبير. إن صوت كمال داود المنتقد للاستبداد الشمولي والذي لا يخشى تناول الموضوعات
المحرمة ــ يجعله كنزاً وطنياً وشخصية مثيرة للجدال في الوقت نفسه.
لقد قوبل قرار الحكومة
الجزائرية بحظر رواية كمال داود "حوريات" بانتقادات حادة من الدوائر الأدبية
ومنظمات حقوق الإنسان. ويرى المنتقدون أن مثل هذا الحظر يخنق الحرية الفكرية ويعزل
الأدب الجزائري عن دائرة الحوارات العالمية. وبالنسبة لبلد كان يُنظر إليه فيما
مضى على أنه قبلة للمثل الثورية العالم ثالثية، فإن هذه الخطوة تشير إلى التراجع والركون
في العزلة الثقافية المنبوذة. كما يثير القرار تساؤلات حول دور الدولة في تأطير التعبير
الفني والخط الفاصل بين الحفاظ على الهوية الثقافية وقمع الأصوات المعارضة.
ومن خلال تعليق جائزة
"غونكور" لهذا العام ، أصدرت أكاديميتها بيانًا قويًا حول أهمية الحرية الإبداعات
الأدبية. ومع ذلك، فإن هذا القرار لن يكون خاليًا من المشاكل والتعقيدات. فمن ناحية
أولى، يؤكد على التزام المؤسسة الفرنسية بالدفاع عن حرية التعبير الفني والوقوف في
وجه الرقابة. ومن ناحية أخرى، يخاطر بتنفير القراء والكتاب الجزائريين الذين قد يشعرون
بأنهم عالقون في مرمى نيران هذا النزاع الثقافي. إن البعض يزعم على أن هذا التعليق
سيعزز عن غير قصد الحواجز التي تسعى فرنسا إلى تفكيكها، مما يحد من فرص الحوار والتفاهم
المتبادل.
إن هذه الحادثة الخطيرة
سوف تلقي الضوء أيضاً على الديناميكيات الواسعة للتبادل الثقافي بين فرنسا والجزائر.
ففي حين تمثل مبادرة "اختيار غونكور" جهداً ثمينا لسد الهوة الثقافية، فإنها
ترمز أيضاً إلى عدم التماثل المستمر في العلاقة بين البلدين. فبالنسبة للعديد من الجزائريين،
تثير مكانة المؤسسات الأدبية الفرنسية مزيجاً معقداً من الإعجاب والاستياء والتناقض
في نفس الوقت .
وتظل اللغة الفرنسية
لغة مهيمنة على الإنتاج الفكري والأدبي والفني في الجزائر، ولكنها تذكرنا أيضاً بالماضي
الاستعماري. وعلى هذا الأساس فإن قضية كمال داود تثير تساؤلات غير مريحة حول توازن
القوة الثقافية ودور اللغة في تشكيل الهويات بعد الاستعمار.
بالنسبة للروائي كمال
داود، من غير المرجح أن يكون الحظر والجدل الذي أعقبه هو نهاية قصته الراهنة. وباعتباره
كاتبًا يتجاوز الحدود باستمرار، يبدو أنه صار جاهزا جيدًا لتجاوز هذه العاصفة. ولا
يزال عمله، الذي نال استحسانًا واسع النطاق خارج الجزائر، يتردد صداه بين القراء الذين
يسعون إلى استكشافات دقيقة للهوية والانتماء. وبالنسبة لمؤيديه، قد يخدم هذا الحظر
في الرفع من قوة رسالته الفكرية، ولفت الانتباه إلى القضايا ذاتها التي يسعى عمله إلى
معالجتها.
إن تعليق جائزة
"اختيار غونكور" في الجزائر يدعونا إلى التأمل في دور الأدب في عالم متسارع
التغييرات. فمع تقريب العولمة بين مختلف الثقافات، فإنها تكشف أيضاً عن الانقسامات
والتوترات التي تحدد الهويات الوطنية. وفي حالة الجزائر، أصبح الأدب بديلاً لمناقشات
أوسع نطاقاً حول الحرية والتراث والمستقبل. ورغم أن قرار أكاديمية غونكور مثير للجدال،
فإنه يؤكد على القوة الدائمة للأدب في الاستفزاز والتحدي والإلهام.
في نهاية المطاف، تُعَد
قضية كمال داود بمثابة تذكير بأن الأدب لا يقتصر على الكلمات المكتوبة على الصفحات
بالأفكار والتاريخ والعواطف التي تثيرها هذه الكلمات وما بين السطور . وفي عالم حيث
يتعرض التبادل الحر للأفكار لتهديد متزايد، أصبح دور الأدب كمساحة للحوار والاختلاف
أكثر أهمية من أي وقت مضى. وسواء في الجزائر أو فرنسا أو خارجها، فإن الأسئلة التي
أثارتها هذه القضية تتردد أصداؤها إلى ما هو أبعد من حدود أي دولة بمفردها. فهي تتحدث
عن النضال العالمي لتحديد هويتنا والشخصية التي نطمح إلى أن نكونها.
0 التعليقات:
إرسال تعليق