لقد أحدث الانهيار الدرامي لنظام الرئيس بشار الأسد ودخول قوات المعارضة إلى دمشق موجات من الصدمات عبر الشرق الأوسط، مما يشير إلى نهاية رواية اتسمت بأكثر من مجزرة لإراقة الدماء والصراع السياسي والمأساة الإنسانية. إن نقطة التحول هذه، التي استغرقت سنوات في الإعداد، تعكس شبكة معقدة من المناورات العسكرية وإعادة التنظيم الجيوسياسي والتراجع التدريجي لاستقرار النظام السوري. ولفهم الآثار المترتبة على هذه اللحظة التاريخية بشكل كامل، من الضروري الخوض بعمق في التفاعل بين هذه القوى وعواقبها على سوريا وخارجها.
إن البعد العسكري لهذا
التطور يسلط الضوء على البراعة الاستراتيجية لقوات المعارضة، وخاصة هيئة تحرير الشام.
ففي أواخر نوفمبر2024، شنت هيئة تحرير الشام والجماعات المتحالفة معها سلسلة من الهجمات
المنسقة جيدًا والتي استهدفت معاقل رئيسية للنظام حيث سقطت مدن مثل حلب وحمص وحماة
ــ التي كانت تعتبر منذ فترة طويلة حجر الزاوية في شبكة الأسد الدفاعية ــ بسرعة غير
مسبوقة. ولم تكن هذه التطورات السريعة مسألة قوة محضة، بل كانت استراتيجية محسوبة استغلت
جيش نظام الأسد المفرط في التوسع والمعنويات المتدهورة. ومن خلال قطع خطوط الإمداد
والتركيز على المناطق التي تعاني من ضعف الدفاع، نجحت قوات المعارضة في تفكيك قدرة
النظام على شن مقاومة فعالة، وكشفت عن هشاشة بنية السلطة.
لا يمكن فصل انهيار
نظام الأسد عن التحولات الجيوسياسية الأوسع نطاقاً التي أضعفت حلفائه التقليديين. فقد
أعادت روسيا، التي كانت ذات يوم حجر الأساس لبقاء الأسد، توجيه تركيزها العسكري إلى
أوكرانيا، حيث توظف مواردها هناك بكثافة. وقد أدى هذا التحول إلى انخفاض الدعم الجوي
الروسي لسوريا، وهو عنصر حاسم في نجاحات الأسد السابقة ضد قوات المعارضة. وعلى نحو
مماثل، قلصت إيران، التي كانت تكافح الاضطرابات الداخلية والضغوط الإقليمية، دعمها
للنظام السوري. وقد أدى إضعاف هؤلاء الحلفاء إلى خلق فراغ استراتيجي استغلته قوات المعارضة
بمهارة. وإضافة إلى محنة الأسد، وجد حزب الله، الذي لعب مقاتلوه دوراً حاسماً في دعم
النظام، أن نطاق نشاطه أصبح ضعيفاً بسبب الصراعات في مسارح أخرى، وخاصة لبنان والعراق.
وقد أدت هذه الضغوط التراكمية إلى جعل الأسد معزولاً بشكل متزايد، وهو الشرط الذي سارع
المتمردون إلى الاستفادة منه.
كما كان تفكك نظام
الأسد نابعاً من نقاط ضعف داخلية سطحية وعميقة . فالتقارير عن انشقاقات بين كبار المسؤولين
العسكريين والحكوميين ترسم صورة لنظام يعاني من انعدام الثقة والتشرذم. ومع اقتراب
قوات المعارضة من دمشق، اتسعت التصدعات داخل الدائرة الداخلية للأسد. وبدأ كبار المسؤولين،
الذين استشعروا حتمية سقوط النظام، في الانشقاق أو الفرار، والتخلي فعلياً عن مناصبهم.
وكان هذا الفقدان للتماسك الداخلي سبباً في شل قدرة الجيش السوري على شن دفاع حقيقي
عن العاصمة. وبحلول الوقت الذي وصلت فيه قوات المعارضة إلى دمشق، كان ما تبقى من جيش
الأسد غير منظم ومنهك المعنويات، وغير قادر على شن أي مقاومة تذكر.
إن الخسائر الإنسانية
الناجمة عن هذه الاضطرابات مذهلة للغاية . فمع تقدم المعارضة، فر آلاف المدنيين من
منازلهم، بحثاً عن الأمان على طول الحدود السورية. وقد أدى هذا الخروج إلى تفاقم أزمة
اللاجئين المروعة بالفعل، الأمر الذي زاد من الضغط على موارد البلدان المجاورة ومنظمات
الإغاثة الدولية. وفي دمشق نفسها، أدى انهيار النظام إلى انزلاق المدينة إلى حالات
من الفوضى. فقد تفشى النهب والعنف، وأصبح نقص الغذاء والمياه والإمدادات الطبية سبباً
في تفاقم معاناة أولئك الذين بقوا في المدينة. ولقد قامت الأمم المتحدة، إدراكاً منها
لتدهور الوضع الأمني، بإجلاء الموظفين غير الأساسيين وأصدرت نداءات عاجلة لتقديم المساعدات
الإنسانية. وتؤكد الأزمة المتكشفة على التكلفة الهائلة للصراع، وخاصة بالنسبة للسكان
المدنيين في سوريا، الذين تحملوا وطأة الدمار الذي خلفته الحرب.
وعلى الساحة الدولية،
كان رد الفعل على سقوط الأسد حذراً ومدروساً. فقد امتنعت الولايات المتحدة، المنشغلة
بالانتقال السياسي الداخلي، عن القيام بدور نشط، الأمر الذي يشير إلى تردد أوسع نطاقاً
بين القوى الغربية في التدخل في مرحلة ما بعد الصراع في سوريا. وحثت الجهات الفاعلة
الإقليمية، بما في ذلك تركيا والمملكة العربية السعودية، على ضبط النفس ودعت إلى التركيز
المتجدد على الحوار السياسي. ورغم أن كلاً من الدولتين لديها مصالح راسخة في مستقبل
سوريا، فإن اهتمامهما الأساسي يتلخص في منع المزيد من عدم الاستقرار الذي قد يمتد عبر
حدودهما. وكثفت الأمم المتحدة جهودها من أجل عقد محادثات السلام في جنيف، مؤكدة على
الحاجة إلى انتقال سياسي شامل لتجنب الفراغ في السلطة الذي قد يؤدي إلى إشعال فتيل
العنف من جديد.
إن سقوط دمشق يثير
أيضاً أسئلة بالغة الأهمية حول مستقبل سوريا. فمع تفكيك نظام الأسد، تواجه البلاد مهمة
شاقة تتمثل في إعادة بناء مجتمع ممزق وإقامة إطار سياسي مستقر. ويتعين على المعارضة،
التي أصبحت الآن في طليعة هذه العملية، أن تبحر في العملية الدقيقة المتمثلة في توحيد
الفصائل المتباينة، والتي يحمل العديد منها رؤى متباينة لحكم سوريا. فضلاً عن ذلك،
فإن خطر استغلال الجماعات المتطرفة للفراغ في السلطة يلوح في الأفق، الأمر الذي يشكل
تحدياً للأمن الوطني والإقليمي على حد سواء.
إن هذه اللحظة
التاريخية ، رغم ما تحمله من اللايقين، تقدم لنا أيضاً فرصاً جديدة. فقد يمهد انتهاء
حكم الأسد الطريق لفصل جديد في تاريخ سوريا، فصل يتميز بالمصالحة وإعادة الإعمار. ولكن
تحقيق هذه الغاية سوف يتطلب جهوداً متضافرة من جانب الجهات الفاعلة المحلية والمجتمع
الدولي. ولابد وأن نسترشد بالدروس المستفادة من الصراعات السابقة، حيث أدت التحولات
التي أديرت بشكل سيئ إلى إطالة أمد عدم الاستقرار، في توجيه النهج المتبع في التعافي
في سوريا.
إن انهيار نظام الأسد وسقوطه النهائي يوم 8 ديسمبر 2024 يشكل تحولاً زلزالياً في الشرق الأوسط وتحديدا في الحرب الأهلية في سوريا، ولكنه ليس
نهاية القصة. فالطريق أمامنا محفوف بالتحديات، بدءاً من معالجة الأزمة الإنسانية المباشرة
إلى رسم مسار نحو السلام الدائم. والمخاطر هائلة، ليس فقط بالنسبة لسوريا بل وللمنطقة
بأسرها، التي تأثرت بشدة بالصراع. وسواء أصبحت هذه اللحظة نقطة تحول نحو مستقبل أكثر
إشراقاً أو مقدمة لمزيد من الاضطرابات، فسوف يعتمد ذلك على الإجراءات التي ستتخذ في
الأسابيع والأشهر المقبلة. ولكن من الواضح أن سقوط دمشق ليس مجرد نهاية حقبة ــ بل
هو بداية فصل جديد وغير مؤكد في تاريخ سوريا.
0 التعليقات:
إرسال تعليق