الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الثلاثاء، فبراير 04، 2025

"خَيَالُ" وَ"سِيَاسَاتُ" نَصٌّ سَرْدِيٌّ: عَبْدُو حَقِّيِّ

في مطار كازابلانكا، كنت أشعر كأنني مسافر إلى حلم يتكور في فنجان قهوة سوداء... العيون، الأجساد، النداءات المتكررة عبر الميكروفون، كلها أصوات تتداخل في متاهة من الرغبات الجامحة .

عندما أقلعت الطائرة، شعرتُ أنني أغادر نفسي وليس وطني ، كأن روحي بقيت على الأرض تتأمل الجناحين اللذين يخترقان قطعان الغيوم السوريالية . اختلط العالمان الأزرقين: السماء والمحيط، حتى لم يعد هناك فرق بينهما، وكأنني أسبح في عين عملاقة تحدق في قامتي منذ الأزل.

في مطار حيدر علييف بالعاصمة باكو، حولني الشعور الغريب الذي تسلل إلى جسدي كما يتسلل الصقيع إلى العظام في صباحات جبال القوقاز الباردة. كنتُ حائراً، مندهشاً، كأنني ولدتُ للتو في عالم غير مألوف.

عند بوابة الوصول، بدا لي الشاب التقني المرشد، أسمر .. طويل القامة يحمل ورقة بيضاء كبيرة مكتوب عليها اسمي بحروف لاتينية واضحة. لم يكن رجلاً عادياً، بل كان كائناً برزخياً، بين الحاضر والماضي، بين الشرق والغرب. عانقني كما لو أنه يعرفني منذ الأزل، وهمس في أذني بترحيب دافئ:

" مرحبا بك في العاصمة باكو."

سألته إن كان من "إدريبيدجان "، لكن جوابه كان أكثر غموضاً مما توقعت:

" أنا من مواليد باكو، لكن والدي من اليمن. عمل هنا أستاذا للغة العربية، كان يهوى الشعر الصوفي وقراءة الطالع عبر النجوم ."

في الفندق، كان الصمت يحيط بي كحزام أمان غير مرئي. كنت أتأمل السقف الشاهق ، وأحاول فك شفرة هذه المدينة التي تخفي أسرارها خلف واجهاتها الزجاجية البراقة.

في الغد، خرجنا لنكتشف العاصمة باكو الفاتنة ، تلك المدينة التي تحب الاختباء تحت طبقاتها المتعددة، مثل كتاب تُقلب صفحاته في اتجاهات متعاكسة.

ضريح فاطمة الزهراء بنت الكاظم كان نقطة البداية، صمت مقدس يحيط بالمكان، كأن الأرواح لا تزال هنا تهمس بأدعية قديمة. بعدها، غادرنا إلى المتحف العصري، الذي يتمدد كقناة برونزية مزخرفة كما لو أنه يحاول أن يفر من الزمن.

عند الماركت الذي يشبه وردة ضخمة، شعرت وكأنني أتنقل بين الأزمنة، فالروائح المختلطة تحملني إلى أسواق بغداد في العصر العباسي، وأحياناً إلى أسواق فاس أو مراكش في ليالي الصيف.

ثم عرجنا على سلالم بانوراما المدينة، رأيتُ العاصمة باكو من السماء تتنفس، تمتد ككفّ مفتوحة أمام البحر، وكأنها في حوار سري مع الأفق.

بعد ثلاثة أيام قضيناها في باكو ، انطلقنا عبر الطريق الجبلي السيار نحو مدينة "قابالا" . في الطريق، كانت جبال القوقاز تلوح كجدران عظيمة تحرس هذا الجزء من العالم. كانت الجبال مغلفة بطبقات سميكة من الثلوج ، تبدو ككائنات نائمة تنتظر إيقاظها من قبل رحالة مغربي مغامر. ركوب التيليفيريك للوصول إليها كان أشبه بتحليق في الذاكرة، حيث تلتقي الأرض بالسماء عند نقطة غير مرئية.

عند الظهيرة دخلنا مطعما قديما حيث تناولنا "ملك المطبخ الأذربيجاني"، أي الـ"بيلاف" ثم بعد ذلك طبقاً أثرياً يشبه الأطباق التي يعدها البدو القوقازيين، مزيج من اللحم والتوابل والنار. كان الطعام يحمل نكهة الزمن، كأنني ألتهم حكاية منسية في كل لقمة.

من "قابالا" إلى "قوبا"، الطريق كان كحبل مشدود بين جبلين، وبينهما الريح تعزف مقطوعتها الأبدية. كلما اقتربنا من الحدود الروسية، كنت أشعر أنني أتجاوز الزمن لا المكان.

في قرية "قوبا"، رأينا ألسنة الجبال تلحس السحب، جوالها الشاملة تستدعي روح المغامرة. كان السائق شاباً إدرياً يدعى "خيال"، ذو ملامح عربية .. يدخن بشراهة، عيناه غارقتان في رماد لا يُنطفأ. كان لبيباً، دمث الأخلاق، خجولا ومطواعاً لا يتردد في تلبية رغباتي السفرية. لم يكن مجرد سائق، كان رفيق رحلة، شاهداً على تاريخ لم يُحكَ بعد.

حكى لي أنه كان عسكرياً في الجيش الإدريبيدجاني ، قاتل بشراسة ووطنية عالية في حرب كاراباخ الأخير قبل أربع سنوات ، وترك جزءاً من حياته هناك، وساحة معركة لا تزال مشتعلة في ذاكرته. أصيب بجروح بليغة في صدره، دخل على إثرها في غيبوبة طويلة دامت ستة أشهر. ستة أشهر في العدم، بين الموت والحياة، لا يدري إن كان جسده يخون روحه أم العكس.

كان من حين لآخر، وبينما الدخان يتصاعد من سيجارته كذكرى معلّقة في الهواء، يرسل تنهيدة طويلة ويقول لي مبتسما :

 "سياسات..."

تكررت هذه الكلمة الرامزة كصدى في رأسي، شعرتُ بها كأنها مفتاح لفهم شيء أكبر وأعمق ، شيء يتجاوز الحدود والجنسيات، شيء يشبه السفر نفسه: عبور لا نهائي بين عوالم متشابكة.

عند بلغنا حدود روسيا، وقفنا للحظات طويلة ، كنا على بعد دقائق من عبور خط غير مرئي، يفصل بين عالمين. أمامنا روسيا، وخلفنا أذربيجان، وعلى جانبي الطريق آثار العهد السوفييتي: قرى هادئة ومدثرة في أكفانها البيضاء السميكة ، بقايا دبابات، شاحنات عسكرية رابطة على جنبات الطرق، ونساء يرتدين معاطف ثقيلة يتوجهن إلى الحقول والأسواق الصغيرة.

في تلك اللحظة، شعرت كأنني في مشهد سينمائي، حيث تتداخل الأزمنة، وتذوب الحدود، ويصبح السفر تجربة تتجاوز تضاريس الجغرافيا. الأطفال يركضون تحت زخات المطر، أقدامهم تدعدغ الطين، ووجوههم تحمل براءة العالم الصقيعي قبل أن يلوثه الزمن.

كانت السيارة تهتز بنا تحت المطر، بينما صديقي "خيال" يروي قصصاً عن أيام الاتحاد السوفييتي، عن شاحنات محملة بالقمح كانت تعبر الجبال تحت حراسة مشددة، وعن قرى تلاشت مع الوقت كما تتلاشى أسماء الجنود في كتب التاريخ. كانت كلماته تتسلل إليّ مثل ضوء خافت في نفق بعيد، تذكرتُ فجأة نداءه لي من حين لآخر "خويا" ، ضحكته التي تشبه شقاً في سماء مكتظة بالغيوم.

عندما توقفنا عند مفترق الطرق بين روسيا وجورجيا، نزلتُ للحظات وصرت أتأمل الأفق الأرجواني. تذكرت أنني لم أخبره بأنني رحلت. لم أرسل له رسالة، لم أترك أثراً خلفي. ربما كان ينتظرني في مكان ما، على حافة قارة أخرى، أو ربما كان مجرد ظل يلاحقني في انعكاسات النوافذ الزجاجية.

عند عودتي إلى العاصمة باكو، جلست في مقهى يطل على بحر قزوين. الموج كان يرسل رسائله إلى الشاطئ، كأنه يحاول التحدث بلغة قديمة لا يفهمها إلا من فقد وطناً مثلي.

كانت رحلتي مزيجاً من الزمن، الجغرافيا، والوجوه التي حملتني في طياتها. لقد حاذيتُ ثلاثة حدود، كنتُ قريباً من روسيا، على بعد ثلاث ساعات من جورجيا، وساعتين من إيران. لكن المسافة الحقيقية لم تكن بين البلدان، بل بيني وبين وطني الأم.

"خويا"، قلتها ل"خيال" بصوت خافت. ربما كان عليّ أن أبحث عنه في وجوه الغرباء، في طرقات القوقاز، أو في عيون الأطفال تحت المطر.



0 التعليقات: