الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الثلاثاء، أبريل 22، 2025

القرية الافتراضية: حين يعيد الإنترنت هندسة الروح الجماعية: عبده حقي


حين أنظر إلى شاشة هاتفي المحمول كل صباح، أشعر كأنني أطلّ من نافذتي الصغيرة على "قرية" لم تخطر على بال أجدادي يوماً. لم تعد المجالس التقليدية ولا المقاهي الشعبية وحدها فضاءات التواصل والتبادل، بل أصبحنا نعيش، نحن المغاربة والعرب عموماً، في قرية افتراضية بلا جدران ولا أسوار، لكن بنبض مشترك وصراعات لا تقلّ حرارة عن تلك التي كنا نعيشها في الأزقة القديمة أو في ساحات الأسواق الأسبوعية. إننا نعيش لحظة تحول ثقافي حاسم، حيث تتقاطع التكنولوجيا مع البنية الاجتماعية وتعيد تشكيلها من جديد، لا عن طريق الهدم فحسب، بل أحياناً عبر إعادة البناء بمنطق مختلف تماماً.

في الماضي، كانت الروابط الاجتماعية تتغذى من المعايشة اليومية ومن الذاكرة الجماعية المتراكمة. كان كل فرد يعرف تماماً ما يدور في حيّه، ويشعر بمسؤولية أخلاقية تجاه الآخر. اليوم، في ظل انفجار الفضاء الرقمي، نجد أنفسنا نعيد بناء علاقاتنا داخل منصات مثل "فيسبوك"، و"تويتر"، و"تيك توك"، و"واتساب"، وغيرها، وهي منصات تشكّل بمجموعها ما أسميه بـ"القرية الافتراضية"، حيث يسكن كلٌّ في زاويته المعرفية، لكنه يطلّ على الآخرين من خلال نافذة معلّقة في الخيال.

هذه القرية الرقمية ليست مجرد مكان للترفيه أو الاستهلاك السطحي، بل أصبحت مختبراً حقيقياً لمفاهيم المواطنة، والتضامن، وحتى التمرد. لقد شهدنا مثلاً في المغرب، كيف كانت شبكات التواصل الاجتماعي عاملاً مؤثراً في إثارة النقاش حول قضايا مثل ارتفاع الأسعار، إصلاح التعليم، ومساءلة المؤسسات. في هذا السياق، لم تعد "المقاهي" هي المراكز الوحيدة لتبادل الرأي، بل أصبحت الهاشتاغات الرقمية منصات للرأي العام البديل، تُنذر وتُحذّر وتُطالب.

ومع ذلك، فإن هذه القرية الجديدة لا تخلو من مخاطر. فهي تحمل في طياتها بذور التفكك أيضاً، تماماً كما تحمل بذور الانتماء. إن مفهوم "المجتمع" هنا قد يتحوّل إلى "فقاعات معرفية"، يعيش كل فرد داخلها محاطاً بمن يشبهه فقط، ويغرق في خطاب يؤكد قناعاته دون اختبار. وهي ظاهرة ناقشها إيلي باريسر في كتابه *"The Filter Bubble"*، محذراً من اختزال التنوع في تجانس زائف يولّده خوارزميات الذكاء الاصطناعي.

بل إن القرية الافتراضية قد تصبح أحياناً مسرحاً لـ"القتل الرمزي"، حيث يُلغى الآخر لا بسبب سلوك مادي ملموس، بل لمجرد اختلاف رأي أو موقف. وهذا ما يجعل من ظاهرة "ثقافة الإلغاء" أو *Cancel Culture* واحدة من أبرز الإشكاليات المعاصرة التي تواجه مفهوم الحوار داخل هذا الفضاء الجديد. في تقريرها السنوي لعام 2023، أشارت منظمة "Article 19" إلى تصاعد حدة التهجم الرقمي داخل مجتمعات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مبرزة أن الحرية الرقمية أصبحت سلاحاً ذا حدين، يجمع بين الانفتاح والتضييق، بين التعبير والإقصاء.

غير أن ما يعيد الأمل في هذه "القرية الافتراضية" هو قدرتها على تجاوز الجغرافيا والطبقية والقيود الأيديولوجية. لقد صارت منصات النقاش الرقمي جسراً للتواصل بين الأجيال، وبين المغاربة في الداخل والشتات. فكم من مغربي يقيم في كندا أو بلجيكا أو الخليج، يعيد اكتشاف هويته المغربية من خلال النقاشات الإلكترونية حول الأمازيغية، أو الصحراء، أو الأغنية الشعبية، أو حتى نكتة دارجة! وكأن التكنولوجيا تعيد جمع "القبيلة المتناثرة" من جديد، على مائدة الخيال المشترك.

الجدير بالذكر أن التحول نحو "القرية الرقمية" لا يقتصر فقط على الجانب الاجتماعي، بل يتعداه إلى الثقافة والإبداع أيضاً. لقد شهدنا في السنوات الأخيرة ولادة أدب رقمي جديد في المغرب، يتميز بتفاعليته وانفتاحه على الوسائط، كما تناولته الكاتبة **N. Katherine Hayles**  في كتابها *Electronic Literature: New Horizons for the Literary*.  لم يعد النص حكراً على الورق، بل صار يمتدّ إلى الفيديو، والصورة، والهاشتاغ، والرمز التعبيري، في تناغم لا يخلو من الجمال والتهديد معاً.

من خلال هذه التجربة الجديدة، نعيد فهم معنى الجماعة والانتماء، بعيداً عن المركزيات القديمة. لم تعد الدولة، ولا الحزب، ولا حتى المسجد أو الزاوية، هي وحدها الفضاءات التي تصوغ الجماعة. القرية الافتراضية تمنحنا مساحة جديدة للانتماء، لكنها تتطلب في المقابل وعياً جديداً بالآخر، ومسؤولية رقمية أخلاقية تحترم التعدد وتحتفي بالاختلاف.

أجل، نحن أبناء زمن رقمي، لكننا لسنا بالضرورة غرباء عن روح القرية التي تربينا فيها. فقط تغيرت لغة التواصل، واختلفت معايير القرب. أما الحاجة إلى الانتماء، فهي باقية، تنتظر فقط أن نحسن إنصاتنا لبعضنا في هذا العالم الذي يسكن في كفّ اليد.

0 التعليقات: