كان من الصعب علي أن أصدق أن الأمر كله بدأ برغبة بسيطة في الهروب، حاجة شبه بدائية للفرار من اضطراب أفكاري . لقد غادرت دون أي نية محددة، وكأنني ألقي زجاجة في البحر، تدفعني ريح قديمة متقلبة هبت من حدود ذاكرتي. هكذا وجدت نفسي، ذات صباح أزرق كريستالي، أمام هذه البيوت المثلثة ذات الأسطح الفيروزية التي يبدو أنها زرعتها يد إلهية في سفح التل، في مكان ما في مرتفعات أدرابيجان القديمة.
كانت البيوت ، كلها
متشابهة ولكن يحركها صمت خاص، تشكل موكبًا متجمدًا على جانب التل، مثل كاهنات يصلين
في مواجهة السماء. أسقفها المدببة تخترق السحب الخفيضة، والستائر التي تسحبها الريح
أحيانا، تسمح بإلقاء نظرة خاطفة على ظلال الذكريات القديمة التي كانت تنام خلف النوافذ.
توقفت للحظة لأتأملها، مستغرقًا في فكرة أن كل واحدة من هذه الكبائن ربما كانت تؤوي
حياة بأكملها - حب خائب، قصائد غير مكتملة، أحلام مجمدة في صقيع النسيان.
التقطت صورة لنفسي،
بشكل غريزي، ليس لالتقاط اللحظة، بل لإقناع نفسي بأنني هناك، بالروح والجسد، على عتبة
هذا الواقع الآخر الذي لا تجرؤ الخرائط على تسميته. ورائي، بدت أيضًا سيارة تويوتا
زرقاء قديمة ذات مظهر متعب وكأنها تأتي من بعيد، من زمن آخر. تحكي لوحاتها المميزة
بأحرف غريبة قصة شعب عريق لا تزال لغته تهمس على الصخور.
أدى الدرج الحجري مباشرة
إلى قلب اللغز. تسلقت ببطء، وحذائي يصطدم بالغبار المتجمد. وعلى يساري، قلوب معدنية
صدئة مزروعة في الأرض كرموز حب أبدي مهجور في منتصف الطريق. كانت طيور النحام الوردي
البلاستيكية تحرس المكان بجدية ساخرة، وكان عدد قليل من البجعات بلا حراك يراقب الصمت.
لم يتحرك شيء، ومع ذلك بدا أن كل شيء يتكلم.
كان سكان هذا
المنتجع، إن كان لا يزال هناك أحد منهم، أو ربما كانوا يعيشون في زمانية موازية، منعزلين
في حجراتهم مثل نساك الضوء. شعرت باهتزاز قديم في الهواء، كما لو أن الجدران نفسها
كانت تحبس أنفاسها منذ مائة عام. ثم قلت لنفسي ربما لم تكن أدرابيدجان دولة بالمعنى
الذي نعطيه لهذه الكلمة، بل فكرة، حلم يسكنه من يرفض النسيان.
أحاطت الجبال بالمكان
كأم قلقة. علمت لاحقًا أن هذه التلال شهدت مرور قوافل الحرير، وأنبياء صامتين، وحتى
شعراء يتحدثون إلى الحجارة. أحببت أن أعتقد أن هذه الكبائن لم تكن سوى الشكل الأخير
الذي اتخذه شعب رفض الموت، وأصر على العيش في الخشب والصفائح المعدنية، في زوايا مستحيلة
وخطوط مثالية.
قضيت فترة ما بعد الظهر
أتجول بين المثلثات. كانت الشمس، الخجولة واللطيفة، تداعب الأسطح كصديق قديم. كان لدي
شعور غريب بأن البيوت تراقبني، كما لو أنها تعرفت على شقيق ضائع بداخلي. تذكرت الكاتب
الذي قال إن الأماكن التي نزورها كانت تنتظرنا قبل وقت طويل من ولادتنا. ربما كان من
المتوقع وجودي هنا، في محطة الأشباح هذه في قلب أدرابيجان، من قبل شيء أو شخص ما.
عندما جاء المساء،
جلست على جدار منخفض من الطوب الأحمر، في مواجهة المنحدر. ورائي، كانت الريح تدندن
بأغاني منسية. فكرت في مسقط رأسي زهرة المدائن مكناس.
0 التعليقات:
إرسال تعليق