كنت أظن، لسنوات، أن روما لا تُعاد، وأن المجد لا يُستعاد، وأن شوارع التاريخ لا تُرصف مرتين. لكن حين خطوت أولى خطواتي في بلاطو تصوير فيلم غلادياتور داخل استوديوهات الأطلس في ورزازات، أدركت أن السينما تملك من سحر الإحياء ما لا تملكه كتب المؤرخين ولا شواهد المتاحف. كل ما في المكان يوحي بأن الزمن طيّع، يُعاد تشكيله ليخدم مشهداً، وليغدو بطلاً في حد ذاته.جئت إلى ورزازات محمولاً برغبة جامحة في لمس شيء من مجد هوليوودي سكن الذاكرة منذ صرخة ماكسيموس الشهيرة: "Are you not entertained?". لم تكن الرحلة مجرد زيارة سياحية لمدينة تنام بين جبال الأطلس وتستيقظ على ضوء الشمس الصحراوي، بل كانت عودة شخصية إلى مكان لم أزره من قبل، لكنه عاش في مخيلتي طويلاً.
حين وصلت إلى استوديوهات الأطلس، بدت لي كمدينة قائمة بذاتها. الأبواب الضخمة، العربات الخشبية، المعابد المصطنعة، وكل تفاصيل الطراز الروماني المبهر كانت محفوظة بعناية مذهلة. لم أكن أصدق أن هذا كله أقيم في قلب الجنوب المغربي، على مرمى حجر من قصبة تاوريرت، في مدينة اختارتها السينما لتكون موضع تقاطع بين العوالم.
كان بلاطو فيلم Gladiator أكثر من مجرد فضاء تصويري. هناك، حيث قاتل راسل كرو ليصنع أسطورته، شعرت بأنني لست زائرًا فقط، بل شاهد على لحظة تحويل الخيال إلى واقع. سرت بين الأعمدة الرخامية، المصنوعة من الجص، وكأنني في المنتدى الروماني، وتلمست آثار أقدام الجنود والمصارعين الوهميين، كما لو أن الحلبة ما زالت تحتفظ بصدى التصفيق والهتاف.
في أحد الزوايا، توقفت أمام قفص حديدي مهترئ، يشبه الأقفاص التي احتجزت فيها الأسود التي واجهها ماكسيموس. سألت المرشد السياحي، فأجابني بأن القفص أصلاً لم يُستخدم في المشهد، لكنه وُضع ليكمل الإيحاء بالرهبة. دهشت من هذه التفاصيل التي تصنع السينما، حيث يصبح الظل أحيانًا أكثر أهمية من الجسم ذاته.
ورزازات، كما فهمت لاحقًا، ليست فقط مدينة للأفلام، بل هي ذاكرة بصرية للعالم. من لورانس العرب إلى مملكة السماء، ومن بابليون إلى Game of Thrones، تمر عبر هذا المكان كل الحكايات التي حلم بها البشر. لكن وحده غلادياتور، بذلك التوهج الدموي والبطولي، ترك بصمة لا تُمحى.
ما جذبني أيضًا، ولم أكن أتوقعه، هو كيف امتزجت التقاليد المغربية المحلية مع الفضاء الهوليوودي. رأيت أحد العمال المحليين، وهو يرتب الدروع المزيفة، يضع طربوشه التقليدي جانبًا ويبتسم في هدوء. سألته، بلغة مزيج من الدارجة والأمازيغية، عن شعوره وهو يعيد نصب مشهد حرب رومانية كل صباح، فأجاب: "هذا عملنا، نصنع الحلم لناس ما شافوش الشمس ديال ورزازات."
في ذلك اليوم، التقطت عشرات الصور، لكن صورة واحدة ظلت الأقرب إلى قلبي: أنا واقف وسط الساحة الكبرى، حيث أُقيمت المعارك، يحيطني الصمت والديكور والنور، وكأنني بطل من زمن آخر، لا يقاتل من أجل إمبراطورية، بل من أجل أن يتذكر قلبه أن الحلم، حين يُبنى، يُمكن أن يصبح ملموسًا.
خارج الاستوديو، تأملت الجبال الحمراء التي تحيط بورزازات. هناك شيء ما في هذا الامتداد الشاسع للصمت والضوء يجعل من المدينة مهدًا مثاليًا للحكاية. السينما لم تخترها عبثًا، بل لأنها، كما يبدو، تشبه الشاشة البيضاء: كل شيء ممكن أن يُرسم فوقها.
وأنا أعود أدراجي إلى الفندق، شعرت بأنني أترك خلفي شيئًا من روحي. لم تكن زيارة عابرة، بل كانت ولوجًا في نسيج حلم عالمي نُسج من رمل مغربي. استوديوهات الأطلس ليست مكانًا فقط، بل وعدٌ دائم بأن المغرب، هذا البلد المتعدد الطبقات والأزمنة، قادر على استضافة أكثر الروايات جنونًا وأكثرها خلودًا.
لذلك، حين يسألني أحدهم لاحقًا: هل شاهدت غلادياتور؟ سأجيبه بهدوء: لم أشاهده فقط... لقد مشيتُ في أثره.
وفي نهاية جولتي، جلست على "العرش" وسط أحد ديكورات المعبد الفرعوني الذي استخدم في مشاهد من أفلام تاريخية كبرى. خلفي كان يقف تمثال ضخم لإله مصري قديم، صامتًا لكنه شاهد على عبور الزمن من الفراعنة إلى هوليوود، مرورًا بي، رجل مغربي أتى من عمق الأطلس ليشارك لحظة خرافية في معبد من كرتون مطلي بالذهب. في تلك اللحظة، لم أكن مجرد زائر، بل كنت ممثلًا، مخرجًا، ومشاهدًا في آن واحد. أغمضت عيني وتخيلت الكاميرا تدور، وصوت المخرج ينادي: "أكشن!"...
0 التعليقات:
إرسال تعليق