حين قرأت كتاب «The Filter Bubble» لإيلي بارايزر، أحسست بأنني أقف أمام مرآة رقمية، لا شاشة حاسوب. لم يكن الكتاب مجرّد نقد تقني لتطور خوارزميات الإنترنت، بل كان بمثابة تحذير فلسفي ناعم من عالَمٍ نحسبه مفتوحاً وشاملاً، بينما هو في الحقيقة عالَم مغلق بعناية، يفصلنا فيه الذكاء الاصطناعي عن الآخر المختلف، ويُغرقنا في ما نشبهه وما نريده فقط.
الكتاب، الذي صدر عام 2011، يبدو اليوم أكثر راهنية مما توقعت؛ إذ أن ما تنبأ به بارايزر – من هيمنة الخوارزميات الشخصية على محتوى الإنترنت – أصبح واقعاً شبه مطلق. ويكفي أن يتصفح المرء شبكته الاجتماعية أو نتائج بحث غوغل، حتى يجد نفسه في "فقاعة فلترة" حقيقية، لا يرى فيها إلا ما يشبهه، ويعتقد حينها أنه يرى العالم كلّه.
يؤسس بارايزر لفكرته
انطلاقاً من قلقه العميق من هيمنة الخوارزميات التي تُصمم خصيصاً لتمنح المستخدم ما
يريده، لا ما يحتاجه. وهذا ما يسميه "فقاعة الفلترة
"
«Filter Bubble» عالم معلوماتي
يُفصّل على مقاس المستخدم، يُقصي فيه ما يتعارض مع ميوله السياسية، أو معتقداته الثقافية،
أو حتى سلوكه اليومي في التصفح.
إن غوغل، وفيسبوك،
وأمازون، وغيرها من المنصات الكبرى، لا تقدّم لنا المعرفة، بل تقدّم لنا نسخة معدّلة
من العالم، قائمة على تحليلات دقيقة لسلوكنا الرقمي. وهنا يكمن الخطر: أن نتحول من
متصفحين إلى مسجونين داخل غرف عزل معرفية غير مرئية.
إن الكتاب يبرز كيف
أن الشركات الكبرى تخلّت عن فكرة "المعلومة للجميع"، وذهبت نحو تخصيص المحتوى
بناءً على بيانات المستخدم. ويستشهد بارايزر بتجربة بحث بسيطة: نفس الكلمة تُنتج نتائج
مختلفة حسب الموقع الجغرافي، واللغة، وسجل البحث. وكأن الحقيقة نفسها لم تعد واحدة،
بل نسبية وشخصية، وهذا ما يضرب جوهر الديمقراطية والتنوع الثقافي.
وأتذكر هنا تحذير بارايزر
بأن "الخطر لا يكمن فقط في ما يُظهِرُه لك الإنترنت، بل في ما يُخفيه عنك".
هذه الجملة تلخّص بشكل مذهل حجم الرقابة الناعمة التي نعيش تحتها. لا وجود لرقابة الدولة
التقليدية، بل رقابة الذكاء الاصطناعي الذي يقرر ما يجب أن نعرفه، وما لا يجب.
أكثر ما أزعجني – كمثقف
مغربي يعيش في زمن التحول الرقمي – هو كيف تُسهم "فقاعة الفلترة" في تعزيز
الاستقطاب السياسي. فالخوارزميات تُظهر للناس فقط ما يتماشى مع قناعاتهم، وتُبعد عنهم
الرأي الآخر، مما يؤدي إلى ضمور النقاش العمومي، وغياب التفاهم، وانتشار "غرف
الصدى"
«Echo Chambers» التي تجعل
الإنسان يظن أن العالم يتفق معه تماماً.
وهذا ما نراه في مجتمعاتنا
العربية أيضاً، حيث أصبحت مواقع التواصل بديلاً عن الإعلام التقليدي، لكنها في الحقيقة
تعمّق الانقسام بين التيارات الفكرية والسياسية، بدل أن تجمع بينها. فلا الليبرالي
يسمع صوت المحافظ، ولا المحافظ يعرف وجهة نظر النسوي أو التقدمي. الكل يعيش في فقاعة
تغذّي تحيزاته، وتؤكد له أن موقفه هو الصواب الوحيد.
أسلوب بارايزر في الكتاب
يتميز بالوضوح والرشاقة، فهو يجمع بين اللغة الصحفية والتحليل الأكاديمي، دون الوقوع
في التعقيد أو التبسيط المخل. يَحكي حكايات، ويقدّم أمثلة حقيقية، ويستعين بتجارب من
داخل شركات مثل غوغل وفيسبوك، مما يعطي مصداقية قوية لما يطرحه.
وفي هذا الجانب، لا
يسقط الكاتب في النزعة التكنولوجوفوبية، بل يدعو إلى مسؤولية أخلاقية وتقنية في بناء
الخوارزميات. هو لا يدعو إلى إلغاء التكنولوجيا، بل إلى ترويضها أخلاقياً، حتى تخدم
الإنسان كمواطن، لا كمستهلك.
حين أنهيت قراءة الكتاب،
بدأت أراجع سلوكي اليومي على الإنترنت: ما الذي أراه فعلاً؟ ومن الذي يقرر لي ما أراه؟
هل اختياراتي على اليوتيوب حرة، أم أنني أُدفع نحو نمط معين من التفكير والتسلية؟
وجدت نفسي مدفوعاً
للتفكير في دور "الفلترة" حتى في الثقافة والقراءة: هل باتت منصات مثل أمازون
أو غوغل بوك توجهني إلى الكتب التي تناسب مزاجي فقط؟ هل أفقد تدريجياً ميزة "الصدفة
الثقافية"، تلك اللحظة التي كنت فيها أقع على كتاب في مكتبة عمومية لا يشبهني
لكنه يغير حياتي؟
«The Filter Bubble» ليس كتاباً
عن الإنترنت فقط، بل عن الإنسان في العصر الرقمي. إنه دعوة مفتوحة لكسر الجدار الزجاجي
الذي بنيناه حول أنفسنا باسم الراحة والخصوصية. فالحرية لا تكون باختيار ما نريد فقط،
بل بمواجهة ما لا نحب أيضاً.
لقد علّمني هذا الكتاب
أن المعرفة الحقيقية لا تأتي من شاشة تصادقني، بل من نافذة تُطلّ بي على المجهول. وإذا
أردنا إنقاذ ديمقراطيتنا ومعرفتنا من التآكل، فعلينا أن نعيد النظر في علاقتنا بالإنترنت،
لا كوسيلة فقط، بل كقوة خفية تُشكّل وعينا ببطء، وبدقة، وبدون أن نشعر.
0 التعليقات:
إرسال تعليق