لقد قضيت سنوات من حياتي موقنا أن للنص قداسةً لا تُنال إلا بتعقبه في طيات الكتب أو انتظار ولادته في المجلات والدوريات. لكنني اليوم أجد نفسي وسط عالم يموج بالتحولات، حيث لم يعد النص ابنًا للورق فقط، بل أصبح كائنًا رقميا، ينمو، يتشظى، ويتحوّل في صيغ متعددة، تتداخل فيها الأجناس والأساليب والوسائط، من النص التفاعلي إلى القصيدة المشفّرة، ومن السرد المعتمد على الذكاء الاصطناعي إلى المقالات الحية المرتبطة آنياً بتدفق البيانات.
لم تعد النصيّة Textuality كما عرفناها تُقاس بطول الجملة
أو عمق الصورة المجازية، بل أصبحت تُحدَّد أيضًا بمدى تكيّفها مع بيئة الوسيط الرقمي.
لقد أصبحنا، كما وصف بول ليفي في كتابه «Cyberculture», أمام نصوص تكتب نفسها بنفسها، أو بالأحرى
تشاركنا كتابتها في تفاعل حي، لحظي، وديناميكي، حيث يغدو القارئ، بتعبير رولان بارت،
ليس فقط منتجًا للمعنى، بل أحيانًا شريكًا في صناعته التكنولوجية.
في ظل هذا التحول،
لم تعد المسافة بين الكاتب والمتلقي قائمة بالشكل الذي عهدناه. فالعصر الرقمي أعاد
ترتيب العلاقة بين الشكل والمضمون، بين المؤلف والنص والقارئ. يكفي أن ننظر إلى ما
يسمى بـ"النصوص المتفرعة" أو «Hypertextual
narratives،
حيث لا تسير القصة بخط سردي مستقيم، بل تنفتح على مسارات واحتمالات تقود القارئ إلى
أن يصبح هو من يقرر مصير الشخصية أو النهاية، أو حتى ترتيب الأحداث.
لقد استوقفني ذات مساء
نص بعنوان «Twelve
Blue» اثنا عشر
أزرق لكاتبة أميركية تدعى مايكل جويس، حيث كانت القراءة أشبه بالسير في متاهة من الأبواب
الرقمية، كل رابط يفضي إلى جزء من ذاكرة أو حلم أو جملة مبتورة، وكل لحظة قراءة هي
إعادة خلق للنص ذاته. هنا لم أعد أمام عمل أدبي كما ألفته، بل أمام تجربة وجودية رقمية،
تضعني داخل الزمن النصي لا خارجه.
النصّ الرقمي لا ينفصل
عن وسائطه، وهذه الحقيقة تفرض علينا مراجعة المفاهيم الكلاسيكية التي حكمت علاقتنا
بالنصوص لقرون. فالوسيط لم يعد مجرد حامل محايد للمحتوى، بل أصبح شريكًا في المعنى.
لقد تناولت شوشانا زوبوف، في كتابها
«The
Age of Surveillance Capitalism»، كيف أن البيانات التي تُجمع أثناء القراءة الرقمية تعيد تشكيل المحتوى
نفسه. فنحن نقرأ، لكن في الوقت ذاته نُقرأ، نُراقَب، ويُعاد توجيهنا، وفي ذلك انكسار
عميق لفكرة "القراءة الحرة".
هل فقد النصّ الرقمي
عمقه الجمالي؟ سؤال طالما راودني وأنا أتنقل بين القصائد المتحركة على "إنستغرام"
أو المقاطع السردية المقطّعة على "تيك توك". ربما نعم، من حيث القصر والسرعة
والاختزال، لكنه اكتسب، في المقابل، نوعًا من الحركية الدرامية والبصرية التي لم تكن
متاحة للنصوص المطبوعة. لقد أصبح النص عرضًا، تجربة حسّية، تتضافر فيها الصورة والصوت
والبرمجة، وتحتاج من القارئ/المتلقي ثقافة متعددة الوسائط.
ولعل أخطر ما يواجه
النص في العصر الرقمي ليس فقط تحوّله الشكلي، بل فقدانه لتلك الهالة التي تحدث عنها
فالتر بنيامين في مقاله الشهير Work
of Art in the Age of Mechanical Reproduction». فالنصوص
الرقمية قابلة للنسخ، التعديل، الاقتطاع، بل وحتى التزييف، مما يهدد أصلها ومصدرها
ومصداقيتها. ومن هنا، ظهرت الحاجة إلى تقنيات مثل الـ Blockchain "بلوكشين" لضمان موثوقية النصوص الرقمية
وحماية حقوق مؤلفيها.
وبصفتي كاتبًا مغربيًا
يعيش هذا التحول، أشعر أحيانًا بالحنين إلى دفء الورق، لكنني أعترف أيضًا بسحر النص
الرقمي، فهو يتيح لي كسر الحواجز الجغرافية، يضعني في حوار مباشر مع قراء من البرازيل
إلى أندونيسيا، ويمكنني من تجربة كتابة مفتوحة على احتمالات لا حصر لها. إن النصّ اليوم
لم يعد يكتمل عند نقطة النهاية، بل يبدأ منها رحلة متعددة الأصوات والتجليات.
التحدي الحقيقي أمامنا
نحن الكتّاب، والنقّاد، والقراء، هو ألا ننظر إلى النص الرقمي كبديل للورقي، بل كامتداد
له، كتحوّل طبيعي داخل تاريخ النص البشري نفسه. علينا أن نعيد تعريف النصوص لا على
أساس مادتها أو شكلها، بل على أساس قدرتها على إثارة السؤال، تحريك الفكر، وزلزلة اليقين.
فسواء كُتب النص بريشة أوزة على رقّ، أو بذكاء اصطناعي في خوارزمية، فإن قيمته تُقاس
دائمًا بمدى قدرته على تحريك ساكن فينا.
وهكذا، أجد نفسي أعود
إلى بيت محمود درويش: "أنا من هناك، ولي ذكريات..."، فأقول: أنا من زمن الورق،
ولي في النصّ الرقمي شغف جديد، لا يُطفئه الحنين، بل يوقظه كلّما مررتُ بإصبع خفيف
على شاشة تضيء، ثم تنطفئ، كما تفعل القصيدة تمامًا.
0 التعليقات:
إرسال تعليق