الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، يونيو 21، 2025

قراءة في كتاب " التكنولوجيا وعالم الحياة " لدون آيدي: ترجمة عبده حقي


في كتابه "Technology and the Lifeworld: From Garden to Earth"،

" التكنولوجيا وعالم الحياة: من الحديقة إلى الأرض " يقدّم الفيلسوف الأمريكي *Don Ihde*  دون آيدي رؤية فلسفية عميقة لعلاقة الإنسان بالتقنية، متجاوزًا التصورات السطحية التي تحصر التكنولوجيا في الأدوات أو الآلات، ومقتربًا من فهم أكثر تأملاً للتقنية

بوصفها بنية من بنيات العالم المعاش. هذا العمل الذي نُشر عام 1990 يعتبر من أبرز النصوص في تيار الظاهراتية التقنية، وهو تيار فلسفي يعيد طرح الأسئلة القديمة حول "الوجود" و"المعنى" من خلال عدسة الوساطة التكنولوجية.

يتبنى آيدي في كتابه منطلقًا هوسيرليًا – نسبة إلى الفيلسوف إدموند هوسرل – يقوم على أن الوعي لا يوجد بمعزل عن العالم، بل هو دائمًا وعي بشيء ما، في سياق ما، ومن داخل عالم معيش. لكن آيدي يطوّر هذا الفهم الكلاسيكي ليؤكد أن علاقتنا بالعالم ليست علاقة مباشرة، بل علاقة تتم عبر وسائط، والتقنية هي أحد هذه الوسائط، إن لم تكن أهمها في العصر الحديث.

يؤكد آيدي أن التكنولوجيا ليست مجرد أدوات حيادية نستخدمها لتحقيق أهداف معينة، بل إنها تغيّر إدراكنا للعالم، وتُعيد تشكيل علاقتنا به. فحين ننظر من خلال المجهر، على سبيل المثال، فإننا لا نرى العالم كما هو، بل نراه "تقنيًا" من خلال وساطة بصرية معقدة تغيّر حتى مفاهيمنا عن المادة والحياة والزمان. وهنا يتقاطع آيدي مع مفكرين مثل *مارتن هايدغر*، الذي أشار إلى أن التقنية لا تكشف العالم بل "تصممه" بطريقة معينة.

لكن على عكس هايدغر، الذي رأى في التقنية خطرًا على الكينونة الأصيلة، يتبنى آيدي موقفًا أكثر توازنا وأقل تشاؤمًا، معتبرًا أن التكنولوجيا ليست شرًّا ولا خيرًا في ذاتها، بل هي نمط من أنماط التوسط. ويقترح تصنيفًا دقيقًا لأشكال التفاعل بين الإنسان والتقنية، منها ما يسميه "العلاقات التجسيدية" (Embodiment Relations) حين تصبح الأداة امتدادًا للجسد (مثل نظارات الرؤية)، و"العلاقات التمثيلية" (Hermeneutic Relations) عندما نحتاج لتأويل ما تنقله الأداة (مثل نتائج الرادار أو الرسوم البيانية)، و"العلاقات الخلفية" (Background Relations) حين تعمل التقنية في الخلفية دون أن ننتبه إليها (كأنظمة التدفئة).

العنوان الفرعي للكتاب "From Garden to Earth" ليس مجازيًا فقط، بل يحمل دلالة حضارية عميقة. فآيدي يقارن بين نمط العيش القديم، الذي كان أشبه بـ"الحديقة"، أي مندمجًا مع الطبيعة ومحدودًا في نطاقه المحلي، وبين عالمنا المعاصر الذي تحوّل إلى "الأرض"، حيث أصبح الوجود إنسانيًا - تقنيًا - عالميًا، متمدّدًا ومترابطًا، لكنه أيضًا عرضة للاغتراب البيئي والتكنولوجي.

في هذا السياق، لا يكتب آيدي كمؤرخ للتكنولوجيا، بل كفيلسوف يسعى لفهم كيف تغير التكنولوجيا إحساسنا بالزمن، بالمسافة، بالجسد، وحتى بالذات. وهو يذهب إلى حد اعتبار أن التكنولوجيات الحديثة قد خلقت نوعًا جديدًا من "الذاتية" ما بعد الكلاسيكية، حيث لم يعد الإنسان كائنًا مستقلاً يسيطر على محيطه، بل أصبح يتشكّل هو ذاته من خلال علاقاته التكنولوجية، كما يظهر في الطب المعزز، والواقع الافتراضي، والتواصل الرقمي.

في العالم العربي، حيث لا تزال علاقة الإنسان بالتكنولوجيا تتأرجح بين التبعية والاستلاب، يوفر كتاب آيدي إطارًا غنيًا لتأمل هذا الوضع. فالتكنولوجيا هنا لا تدخل دائمًا كنتاج لتطور داخلي، بل غالبًا ما تكون مستوردة، مفروضة، أو مُساء استخدامها، مما يؤدي إلى نشوء علاقة مشوّهة بين الإنسان والعالم. وبدلاً من أن تكون التقنية وسيلة لتحرير الإنسان، تتحوّل أحيانًا إلى أداة للهيمنة أو الاستهلاك السطحي.

ولعل ما يجعل فكر آيدي ذا صلة بالسياق العربي هو دعوته إلى نوع من "الوعي الظاهراتي" بالتقنية، أي فهم كيف تُعيد التكنولوجيا تشكيل تجربتنا اليومية، من أبسط مظاهرها (مثل استخدام الهاتف الذكي) إلى أعمق تجلياتها (مثل الانغماس في شبكات التواصل الاجتماعي أو في المعمار المعاصر). هذا الفهم لا يقتصر على الفلاسفة، بل يُعد مطلبًا ثقافيًا ملحًا لكل من يشتغل بالتربية أو الإعلام أو السياسة أو حتى الدين.

"Technology and the Lifeworld"  ليس كتابًا تقنيًا، بل دعوة فلسفية لإعادة التفكير في أسس وجودنا داخل عالم مشبع بالتكنولوجيا. إن آيدي لا يقترح الانسحاب من العالم، بل يدعونا إلى تأمل أعمق لعلاقتنا به، عبر التكنولوجيا ومن خلالها. إنه يقترح أن نكون *حاضرين* لا فقط كمستخدمين، بل ككائنات واعية بأن وجودها أصبح مشروطًا بما يتوسطه.

وفي عالم تتسارع فيه الابتكارات، وتزداد فيه الهوة بين المستخدم والآلة، فإن فكر دون آيدي يمنحنا أدوات للتأمل والنقد، ويمنحنا فرصة لإعادة تعريف ما يعنيه أن نكون بشراً في عصر تكنولوجي. وهو بهذا، يسهم في بناء فلسفة تقنية إنسانية، تقاوم الاغتراب دون أن تقع في فخ الرومانسية، وتحتفي بالوساطة دون أن تقدّس الوسيط.

0 التعليقات: