الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، يونيو 21، 2025

حين تكتب الخوارزميات الأدب بدلاً عنا: عبده حقي


لطالما كنت أؤمن أن الكتابة الأدبية لا تُولد من فراغ، بل هي حصيلة تراكم لغوي، وتجربة إنسانية، وشحنة وجدانية تتجاوز حدود التقنية إلى مساحات لا يمكن اختزالها في معادلات رياضية. غير أنني، وأنا أراقب الطفرة الجارية في ميدان الذكاء الاصطناعي، وجدت نفسي وجهاً لوجه أمام سؤال لم يعد من الممكن تفاديه: هل بمقدور الآلة أن تكتب أدباً؟ أو بالأحرى: هل يمكن اعتبار الأدب المُنتَج بواسطة الذكاء الاصطناعي أدباً بالمعنى الجوهري للكلمة؟

ربما كان أول ما يخطر على البال في هذا السياق هو مفهوم "الصدفة الخلّاقة"، تلك التي تحدث عنها «بول فاليري» حين رأى أن الإبداع لا يأتي إلا عندما تلتقي المصادفة بالاستعداد. ولكن الذكاء الاصطناعي لا يعرف المصادفة ولا الاستعداد الشخصي، بل يعمل انطلاقاً من شبكات عصبية وخوارزميات تصنع الجمل وفق إحصائيات الاستخدام، وتُرتب العبارات بحسب الأوزان السياقية للكلمات في ملايين النصوص. هل هذا وحده كافٍ لإنتاج نص أدبي؟

في روايتي "إيريكا في غرفة الأخبار"، وهي تجربة هجينة كتبتها بتعاون مباشر مع نماذج لغوية توليدية، لم أكن أبحث عن إثبات لتفوق الإنسان أو الآلة، بل كنت أبحث عن نقطة التماس بين ما يمكن قوله وما يمكن تخيله. كان على الخوارزمية أن تكتب بناءً على تصاميم روائية مسبقة، لكنها فاجأتني أحياناً بجُمل لم أكن أتوقعها، بل ولم أكن لأكتبها أنا نفسي. هنا وجدتُ نفسي أمام سؤال فلسفي عميق: من صاحب العبارة؟ من الكاتب الحقيقي؟ هل أنا، أم البرنامج الذي أنتجها؟ أم نحن معاً؟

إن هذا المأزق ليس جديداً. ففكرة "الكتابة اللاإرادية" التي أطلقها السورياليون في عشرينيات القرن الماضي، وتجلّت في تجارب «أندريه بريتون» و»روبرت ديسنوس»، كانت بدورها نوعاً من تفويض العقل البشري إلى قوى باطنية لا واعية. واليوم، يبدو أن الذكاء الاصطناعي يعيد إنتاج نفس المفهوم، ولكن بآليات مختلفة. فالآلة لا تكتب من اللاوعي، بل من «اللاشخصي»، أي من تراكم بيانات لا تنتمي لأي فرد بعينه، بل لكل النصوص التي سبق أن استُهلكت في التدريب.

لقد أصبح من المألوف اليوم أن نقرأ قصائد أو روايات قصيرة تحمل توقيع "ذكاء اصطناعي"، بعضها يثير الدهشة حقاً. في عام 2021، نشرت «مجلة The Guardian» مقالاً بقلم برنامج GPT-3 يدافع فيه عن نفسه باعتباره غير خطير على البشر. ورغم افتقاده لموقف أخلاقي واضح، فإن البناء المنطقي للنص جعل بعض القرّاء يتشككون إن لم يكن هذا المقال من كتابة صحفي مخضرم.

لكن التماسك البنيوي، على أهميته، لا يصنع أدباً. فالأدب – كما أفهمه – هو تلك المسافة بين الجملة والمعنى، هو ما لا يُقال صراحة، وما يُفهم عبر ما يُخفى. أما الذكاء الاصطناعي فيبدو مشغولاً أكثر بإتقان ما يُقال صراحة، وبالامتثال لقواعد الأسلوب. إنه، كما يصفه «نيك مونتفورت» في كتابه  «Computational Poetics، مهووس بالسطح، بالتماثل، بالتوقعات القائمة مسبقاً.

ومع ذلك، لا يمكن إنكار ما يفتحه هذا النوع من الأدب من آفاق جديدة. فمن خلال هذا التعاون بين الكاتب والآلة، تتغير علاقتنا بالنص. لم أعد أكتب فقط، بل أختار، أحرّر، أُقصي وأُبقي، في لعبة تبدو فيها الكتابة أقرب إلى التوليف الموسيقي منها إلى التعبير الفردي. لقد أصبحت الكتابة بالنسبة لي "تنسيقاً" (curation) أكثر من كونها خلقاً خالصاً. وهذا تحوّل جوهري في مفهوم "الكاتب"، الذي لم يعد وحده على المسرح، بل يشاركه فيه مساعد رقمي يمتلك قدرة مهولة على المحاكاة.

يبقى السؤال المؤرق في كل هذا: لمن تعود ملكية النصوص المولدة؟ هل للكاتب الذي أشرف؟ أم للآلة التي تولّد؟ أم لشركة التقنية التي تملك النموذج؟ هذه الأسئلة بدأت تُطرح بجدية في الأوساط الأكاديمية والقانونية، خصوصاً بعد تقارير حول تسجيل بعض الأعمال الأدبية التي أنتجها الذكاء الاصطناعي كأعمال «بدون مؤلف»، أو بوصفها "محتوى مركّباً". وفي غياب إطار تشريعي واضح، يبقى الخطر قائماً بأن تُصبح الآلة أداة استغلال بدلاً من كونها أداة تحرير.

في نهاية المطاف، لا أرى أن الذكاء الاصطناعي سيقضي على الأدب، ولا أعتقد أنه سيحل محل الكاتب، لكنه سيغير الأدب حتماً. وربما هذا ما ينبغي أن نعدّ له أنفسنا: أدب لا يصدر من إنسان واحد، بل من تفاعل مستمر بين الإنسان والخوارزمية، بين الإبداع والتكرار، بين الروح والمعادلة. وربما، في زمن قادم، سنعود إلى هذه اللحظة ونسأل أنفسنا: من كتب أولاً؟ نحن، أم هم؟ أم الاثنان معاً؟

0 التعليقات: