الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الاثنين، سبتمبر 01، 2025

المغرب في مرآة عصره الحديث : (17) اليسار الاشتراكي من خطاب القطيعة إلى براغماتية التفاوض: ملف من إعداد عبده حقي


منذ منتصف السبعينيات أخذت المعارضة الحزبية في المغرب تتخلّص تدريجياً من منطق الصدام الشامل الذي ساد عقدي الستينيات وبداية السبعينيات، وتتجه إلى بناء أدوات تمثيلٍ وانتزاع مكاسب عبر مؤسسات الدولة نفسها. وقد تسارعت هذه التحولات بعد صدمات كبرى: محاولتا الانقلاب في بداية السبعينيات، ثم انعطافة 1975 التي فتحت جبهة الصحراء وفرضت على المكونات السياسية إعادة ترتيب أولوياتها الوطنية.

هذا المسار ما بين 1975 و1991 جعل المعارضة أكثر تماسكاً تنظيمياً وشرعية جماهيرية وقدرة على عقد التحالفات، ومهّدت مباشرةً لزمن الإصلاحات الدستورية وبوادر “التناوب” لاحقاً.

1975: لحظة إعادة التموقع الوطني وبداية عقلنة المعارضة

أطلقت المسيرة الخضراء دينامية “تعبئة وطنية” واسعة حول قضية الصحراء المغربية، فانخرطت الأحزاب المعارضة التاريخية في الدفاع عن الموقف الوطني مع الإبقاء على أجندة ديموقراطية داخلية. داخل هذا المزاج العام صارت كلفة القطيعة القصوى مرتفعة، وبرزت معادلة جديدة: دعم الوحدة الترابية بالتوازي مع المطالبة بإصلاح قواعد اللعبة السياسية.

في السياق نفسه شكّل اغتيال القيادي النقابي والسياسي عمر بنجلون عام 1975 صدمةً أفضت إلى مراجعات فكرية داخل اليسار، وتعزيز الرهان على العمل العلني والمؤسساتي وتنظيم العلاقة مع النقابات والشارع.

1976–1983: من البلدية إلى البرلمان… مؤسسات للاعتراض والمراكمة

أُقِرّ “ميثاق الجماعات” سنة 1976، فوسّع صلاحيات الجماعات المحلية وفتح باب منافسة انتخابية ذات معنى في المجال البلدي؛ هنا تعلّمت المعارضة فنون إدارة التحالفات المحلية، وتدرّبت على تحويل الأصوات إلى مواقع تنفيذية وخدماتية، بما جعل البلدية مدرسةً لتأطير القاعدة الانتخابية وبناء الكوادر.

وفي المقابل، عملت السلطة على هندسة توازن حزبي جديد عبر تأسيس “التجمع الوطني للأحرار” سنة 1978، لتجميع الأعيان والتكنوقراط وإعادة تنظيم “حزب الإدارة” حول كتلة وسيطة تُضعف أحزاب المعارضة التاريخية داخل البرلمان والخرائط الانتخابية.

1978–1984: معارضةٌ تمتلك ذراعاً اجتماعياً

تأسست “الكونفدرالية الديمقراطية للشغل” عام 1978، فوفّرت للمعارضة اليسارية ذراعاً نقابياً مستقلاً نسبياً. قادت هذه المركزية النقابية إضرابات كبرى وتحوّلت إلى قناة ضغط اجتماعي وسياسي متقاطعة مع أجندة الاتحاد الاشتراكي في البرلمان والشارع. وقد مثّل إضراب 20 يونيو 1981 وما أعقبه من أحداث الدار البيضاء ذروة هذا الاشتباك الاجتماعي-السياسي.

زاد دخول المغرب في برنامج التقويم الهيكلي ابتداءً من صيف 1983 من احتقان الشرائح الوسطى والدنيا، واندلعت موجة احتجاجات واسعة في 1984 خاصة في الناظور والريف. كل ذلك منح المعارضة مادةً اجتماعية ملموسة لصوغ خطاب بدائل وامتلاك لغة الأرقام والحقوق الاجتماعية.

أفرزت انتخابات 1984 خريطةً برلمانية واسعة التمثيل، تقدّم فيها “الاتحاد الدستوري” و”التجمع الوطني للأحرار”، فيما عمّق الاستقلال والاتحاد الاشتراكي خبرتهما داخل المؤسسة التشريعية، وباتت المعارضة أكثر دراية بأدوات الرقابة والأسئلة واللجان، وأميل إلى تفكيك النصوص بدل الاكتفاء بالشعارات.

1990–1991: منطق الكُتلة وولادة “المعارضة المتفاوضة

مع نهاية الحرب الباردة وتكثّف الضغط الاجتماعي الداخلي، اكتشف خصوم الأمس ضرورة التنسيق. ففي مايو 1990 تقدّمت أحزاب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي والتقدّم والاشتراكية و”منظمة العمل الديمقراطي الشعبي” بأول ملتمس رقابة منذ 26 عاماً، رابطين بين الإصلاح الدستوري وتقوية رقابة البرلمان وشرط المسؤولية الحكومية. ورغم رفض الملتمس، إلا أنه دشّن عملياً زمن “المعارضة المتحالفة” التي ستقترب لاحقاً من صيغة “الكتلة الديمقراطية.

وفي الاتجاه المؤسساتي نفسه، أحدث المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان بظهير أبريل 1990؛ خطوةٌ نقلت ملف الانتهاكات من الإنكار إلى إطارٍ رسمي للمعالجة والتوصية، ووفّرت قنوات تفاوض إضافية بين الدولة والمعارضة والمجتمع الحقوقي.

عام 1991 شهد انفراجاً ملموساً بالإفراج عن مئات المختفين والمعتقلين السياسيين، وهو ما قرأته المعارضة كإشارة جدية إلى بداية طي صفحة “سنوات الرصاص” بأدوات تفاوضية ومؤسسية. في العام نفسه أُقِرّ مخطط التسوية الأممي في الصحراء وأُعلنت الهدنة تحت مظلة “مينورسو”؛ فأزيلت ذريعة “الطوارئ غير المعلنة”، واتسعت نافذة المراجعة الدستورية التي ستأتي لاحقاً سنة 1992.

حصيلة 1975–1991: ثلاثُ قفزات في نضج المعارضة

أولاً، قفزة في القبول بقواعد اللعبة: المشاركة البلدية، تحسين الأداء البرلماني، وتوسيع استعمال آليات الرقابة والتشريع. ثانياً، قفزة في هندسة التحالفات: من تباينات تاريخية إلى تنسيقٍ برلماني-نقابي، شكلت مقدمات “الكتلة” ومذكراتها الإصلاحية. ثالثاً، قفزة في لغة المطالب: انتقالٌ من قاموس الثورة إلى مفردات “دولة الحق والقانون”، وربط الديمقراطية بالعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان.

لقد تعلّمت المعارضة كيف تفاوض داخل المؤسسات، وتقرأ توازنات الدولة العميقة، وتحوّل الشارع والنقابات إلى أصول تفاوضية لا إلى مَخارِج صفرية. وهكذا أُقفلت حقبة 1975–1991 على معارضةٍ أقدر على التمايز البرنامجّي والتكتل والتفاوض، وعلى دولةٍ بدأت تؤطّر ملف الحقوق والانفراج السياسي ضمن أطر قانونية ودستورية جديدة. لذلك تُفهَم تعديلات 1992–1996 و”تناوب” 1998 بوصفها ثمرة تراكم طويل بدأ عملياً بعد الانقلابين، وتبلور في مدرسة البلديات، وتصلّب في الشارع النقابي، ثم تَرجَم نفسه داخل البرلمان بلغة الملتمسات والمذكرات والصفقات.

المراجع والمصادر

John Waterbury, The Commander of the Faithful: The Moroccan Political Elite (1970).

Rémy Leveau, Le fellah marocain, défenseur du trône (1976).

ميثاق الجماعات لسنة 1976 – نصوص ومراجع رسمية حول اللامركزية.

وثائق تأسيس التجمع الوطني للأحرار (1978) وتحليل دوره في موازين القوى الحزبية.

Lorenzo Feltrin, “The Moroccan system of labour institutions” (2020).

MERIP, “Winter of Discontent” (1984).

IMF, Adjustment and Development: The Case of Morocco.

IPU/Parline، تقرير انتخابات 1984 التشريعية.

Le Monde (22 مايو 1990)، خبر ملتمس الرقابة.

OpenEdition، “Pluralisme limité… ” – توثيق الملتمس المشترك 1990.

ظهير 20 أبريل 1990 بإحداث المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان.

Amnesty International، تقارير عن إفراجات 1991.

UNSC Resolution 690 (1991) وإنشاء “مينورسو.

Mohamed Tozy, Monarchie et islam politique au Maroc (1999).

Francesco Cavatorta (2020)، دراسة عن “الإصلاحية الفوقية والسخط الاجتماعي

M. Mekouar، ورقة أكاديمية حول اغتيال عمر بنجلون وسياقه السياسي.

روابط مكتبات رقمية لبعض المراجع

UNSC 690 (1991) – مكتبة الأمم المتحدة الرقمية

MINURSO – United Nations

Amnesty International – Morocco Reports

IPU/Parline – Moroccan Elections 1984

OpenEdition – Pluralisme limité au Maroc

ميثاق الجماعات 1976 – موقع الجماعات الترابية المغربي

يتبع


0 التعليقات: