ناصرة دوتور، الوجه الحقوقي المعروف بارتباطه الوثيق بملفّ المفقودين في الجزائر، تُمنَع من دخول بلدها وتُعاد على متن طائرة إلى باريس. ليست الحكاية حادثًا إداريًّا عابرًا؛ إنها اختبارٌ قاسٍ لعقدٍ اجتماعيّ تقول عنه صاحبة القصّة إنّ السلطة نقضته لحظةَ طبّقت عليها قانونًا موجّهًا للأجانب، فيما هي جزائرية «دمًا وهويةً وذاكرةً».
في 30 يوليو/تموز 2025، هبطت دوتور في مطار الجزائر قادمةً على رحلة لخطوط جوية فرنسية. مرّت بإجراءاتٍ تعرف مسالكها جيّدًا: تسليم الجواز، الانتظار، ثم استدعاء مسؤولين يتعاقبون على شاشة الحاسوب. غير أنّ المشهد هذه المرّة انقلب. طُلِبت بياناتٌ أولية على نحوٍ متكرّر «لتضييع الوقت»، كما تقول، قبل أن تُقتاد مسرعةً إلى بوابة صعودٍ وتُسلَّم بطاقةَ صعودٍ لم تحجزها، ثم تُجلَس في الصفّ الأخير «كأنها متهمة». لحظة إقلاع الطائرة اكتشفت ورقةً في جوازها: محضر «رفض إدخال» استنادًا إلى قانون الإقامة ودخول الأجانب. هنا، يصبح السؤال بسيطًا وصادمًا: كيف يُعامل مواطنٌ يحمل جوازًا جزائريًا كـ«أجنبي»؟
بينما كانت اتصالات
العائلة والحقوقيين تنهال عليها حتى الثالثة صباحًا، ظلّ جرحها الأعمق قديمًا ومتجددًا:
ملفّ المفقودين الذي تقوده منذ التسعينيات بعد اختطاف ابنها. لهذا، بدا «الترحيل» في
نظرها امتدادًا لسياسةِ إسكاتٍ أوسع: «إن كنتم لا تريدون أن نتكلّم، أعيدوا إلينا أجسادَ
أبنائنا لندفنهم بكرامة»، تقول. تتذكّر سنوات الوقفات الأسبوعية أمام مؤسسات الدولة،
التضييق المتقطّع، والضرب الذي طالها في 2003، ثمّ التشديد اللاحق الذي نقل تجمعاتهم
إلى الأرصفة والمحطات. بالنسبة إليها، الفعل واحد: دفع المجتمع المدني إلى الهامش،
وإرهاق الذاكرة حتى تصمت.
تتمسّك دوتور بحجةٍ
دستورية صلبة: لا يملك أي جهازٍ إداريّ حقّ منع الجزائري من دخول بلده، والمنع لا يكون
إلا بقرارٍ قضائيّ محدّد الشروط، والأصل أنه يطال «الخروج» لا «العودة». فوق ذلك، تستند
إلى منظومةٍ دولية من العهود والمواثيق التي تكفل حرية التنقل والعودة إلى الوطن. أمّا
محضر «رفض الإدخال» الصادر باسم الداخلية، فترى فيه «تجاوزَ سلطة» صريحًا، ولذلك تتجهّز
لإجراءين متوازيين: دعوى إدارية لإلغاء القرار، وشكوى جزائية بداعي التعسّف في استعمال
السلطة. بالتوازي، تتحرّك منظماتٌ حقوقية لإثارة آلياتٍ أممية وإفريقية معنية بالاختفاء
القسري وحرية التنقل.
هل المستهدَف هو ناصرة
دوتور كشخص، أم قضية المفقودين كملفّ؟ تجيب بلا مواربة: الاثنان معًا. لكنها تضيف أن
السلطة تتحسّس من الأصوات التي تمنح الملفّ نفسًا جديدًا وتنظّم الشتات العائليّ في
إطارٍ مدنيّ صبور. تعدّد شبكاتها: جمعيات محلية، ائتلافات متوسطية ودولية، حضورٌ دوريّ
في مجلس حقوق الإنسان بجنيف، ومرافعاتٌ تخصّ النساء والمعتقلين وسنّ قوانين فضفاضة
تُجرّم المعارضة تحت شبهة «الإرهاب». كلُّ هذا، في تقديرها، يجعل العودة إلى البلاد
ليست مجرّد رحلةٍ عائلية، بل فعلَ موقفٍ عام.
لا تخفي دوتور قلقها
على شبابٍ «يموت في البحر بينما يعرف الجميعُ طرقَ المهرّبين ومواعيدَ القوارب». ترى
في ذلك استعارةً مرّةً لسياسةٍ تُدير ظهرها للمستقبل. وتستحضر وجوهًا مسنّةً ونساءً
دفعن أثمانًا فادحة. وفي الوقت نفسه، تحفظ للحظة «الحِراك» طاقتها المؤنِّبة: «ذاك
الجيل كان يضع قُبلاتٍ على جباه الأمهات ويحمل صور أبنائهنّ». لهذا، فإنّ رهانها لا
يزال على المجتمع، لا على مزاج السلطة.
تقول دوتور إنها خاطبت
رسميًّا المجلس الوطني لحقوق الإنسان، وتتهيّأ لمراسلات أخرى، وتنتظر انتهاء العطلة
الإدارية لتحريك الملف. لا تستجدي «عفوًا» من أحد، ولا تقدّم «توبة» سياسية؛ ما تطلبه
حقٌّ بدهيّ: أن يعود المواطن إلى بيته بلا قيد. وتسرد تاريخًا عائليًّا مقاومًا، معلنةً
انتماءها: «أنا جزائرية أكثر مما يتخيّل من يطلب منّي الصمت».
تؤكّد أنّها ستعود
«حين تُصحَّح الإهانة»، وأنّها لا تعمل بمنطق الافتراضات: تتحرّك ثم تنتظر نتيجة تحرّكها.
أمّا المشهد الأوسع، فتراه وقد بلغ حدودَ التشبّع: «ما الذي بقي بعد السجون والمنع؟
إلا أن تُخرَج الدبابات كما في 1988، وهو ما لا نريده ولا نقبله». ترجو جزائرَ يتنفّس
فيها المواطن حرّيته، ويجد فيها الشابُّ معنى البقاء، وتُدفن فيها الذاكرة لا لأننا
نسينا، بل لأنّ العدالة تكفّلت بإغلاق الجرح.
قصة ناصرة دوتور ليست
خبرًا عابرًا عن مسافِرةٍ أُعيدت من بوابة المطار؛ إنها امتحانٌ لبداهاتٍ حقوقيةٍ يُفترض
أنها فوق الخلاف، وتذكيرٌ بأنّ الذاكرة حين تُضطَهَد تتحوّل إلى سياسة. ما حدث في
30 يوليو/تموز 2025 يضع السلطة أمام مرآتها: هل تُحترَم صفة «المواطِن» حين يختلف مع
الدولة، أم تُسحَب منه في أول بوابة جوازات؟
0 التعليقات:
إرسال تعليق