تمهيد: سؤال الاتصال في زمن العولمة
يشكّل الإعلام في عصرنا الراهن السلطة الأكثر حضورًا وتأثيرًا في حياة الأفراد والمجتمعات. فمنذ بدايات القرن العشرين وحتى مطلع القرن الحادي والعشرين، شهدنا انتقالًا من إعلام محدود الانتشار إلى فضاء اتصالي شمولي يطوّق الوعي الفردي والجماعي،
ويعيد صياغة القيم والمعايير والسلوكيات. في هذا السياق يطلّ علينا الصحفي والمفكر الإسباني-الفرنسي إغناسيو راموني بكتابه المرجعي «طغيان الاتصال»، الذي يُعدّ من أبرز الكتب النقدية التي وضعت الإعلام تحت مجهر التحليل، وكشفت كيف تحوّل من سلطة رابعة إلى أداة هيمنة سياسية واقتصادية وثقافية.راموني، الذي راكم
خبرة طويلة في الصحافة وفي رئاسة تحرير جريدة لوموند ديبلوماتيك، لا يتعامل مع الإعلام
باعتباره مجرد وسيلة حيادية لنقل المعلومات، بل بوصفه منظومة معقّدة متشابكة مع الرأسمالية
العالمية والسياسات النيوليبرالية. ومن هنا فإن كتابه يشكّل محاولة جريئة لإعادة التفكير
في سؤال الاتصال، ليس من زاوية تقنية فحسب، بل باعتباره أيديولوجيا كاملة تمارس طغيانًا
على المجتمع الحديث.
أولًا: من الاتصال
كأداة تحرر إلى الاتصال كأيديولوجيا قمعية
يرى راموني أن الاتصال
كان في بداياته وسيلة أساسية للتحرر، لأنه مكّن الناس من تبادل المعرفة وتوسيع أفق
الوعي. لكن مع تسارع الثورة الإعلامية، تحوّل الاتصال نفسه إلى أيديولوجيا. لم يعد
الغرض الأساسي هو إيصال المعرفة، بل إخضاع العقول لإيقاع إعلامي متواصل لا يسمح بالتفكير
النقدي ولا بالمسافة التأملية.
في هذا السياق، يصف
راموني الإعلام بأنه آلة شاملة لإعادة إنتاج السلطة. فالتواصل لم يعد محايدًا، بل صار
يخدم مصالح النخب الاقتصادية والسياسية التي تتحكم في أدواته. إنّ الطغيان هنا لا يأتي
من الرقابة الصريحة، بل من فيض المعلومات الذي يُغرق المتلقي ويجعله عاجزًا عن التمييز
بين الحقيقة والزيف، بين المهم والهامشي.
ثانيًا: التحالفات
الإعلامية الكبرى وهيمنة الرأسمال
من أهم المحاور التي
يناقشها الكتاب تحوّل الإعلام إلى صناعة عالمية تحت سيطرة شركات كبرى. فقد شهد العالم
اندماجًا غير مسبوق بين مؤسسات الإعلام التقليدية (الصحف والتلفزيون) وبين شركات الإعلان
والترفيه وصناعة السينما والموسيقى. هذا الاندماج جعل من الإعلام جزءًا من منظومة رأسمالية
شاملة، هدفها الأوحد هو الربح، لا الحقيقة.
تتجسد خطورة هذه التحالفات
في أنها لا تكتفي بامتلاك أدوات الإعلام، بل تحتكر أيضًا صناعة الخيال الجماعي. فهي
التي تنتج الأخبار والأفلام والإعلانات في الوقت نفسه، وتبثها عبر شبكاتها العالمية،
فتفرض على الجمهور ثقافة واحدة وأنماط استهلاك موحّدة. وهنا يصبح الإعلام سلاحًا ناعما
للهيمنة الثقافية، يُعيد تشكيل الأذواق والقيم بما يخدم مصالح السوق.
ثالثًا: سقوط وظيفة
"السلطة الرابعة"
لطالما اعتُبر الإعلام
سلطة رابعة، مهمتها مراقبة السلطة السياسية وكشف تجاوزاتها. غير أن راموني يوضح كيف
تلاشت هذه الوظيفة تدريجيًا. فالإعلام الذي كان يُفترض أن يكون في صف المجتمع، اندمج
مع النظام السياسي والاقتصادي، وأصبح جزءًا من آلية إنتاج الشرعية.
بدل أن يسائل السلطة،
صار الإعلام نفسه سلطة متحالفة مع القوى السياسية والمالية. ومن خلال هذه الشراكة،
يفقد الإعلام استقلاليته، ويتحوّل إلى أداة لتسويق القرارات الرسمية وتبرير السياسات
الحكومية، سواء كانت اقتصادية أو عسكرية. بهذا المعنى، لم يعد الإعلام سلطة رقابية
بل سلطة تواطؤ.
رابعًا: الإعلام كفاعل
سياسي مباشر
يتجاوز راموني فكرة
الإعلام كناقل للخبر إلى اعتباره فاعلًا سياسيًا كاملًا. الإعلام لم يعد يكتفي بعرض
الأحداث، بل يشارك في صناعتها وصياغة خطابها. وقد ظهر ذلك جليًا في تغطية الأزمات السياسية
العالمية، حيث لعبت القنوات الكبرى دورًا في توجيه الرأي العام، وأحيانًا في تقويض
شرعية حكومات أو دعم انقلابات أو تبرير حروب.
إنّ خطورة هذا الدور
تكمن في أنّ الإعلام يستند إلى شرعية غير منتخبة. فهو ليس برلمانًا ولا مؤسسة سياسية
خاضعة للمساءلة الشعبية، ومع ذلك يتمتع بقدرة هائلة على تحديد الأولويات وصناعة الأجندات،
الأمر الذي يطرح تساؤلات عميقة حول مستقبل الديمقراطية.
خامسًا: هيمنة الصورة
واغتراب الحقيقة
يولي راموني أهمية
كبيرة لمسألة هيمنة الصورة على حساب الكلمة المكتوبة. ففي زمن التلفزيون ثم الإنترنت
ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت الصورة الوسيط الأكثر تأثيرًا. غير أن الصورة، برأي
راموني، لا تنقل الحقيقة بقدر ما تُعيد تشكيلها. إنها أداة للتمثيل، قابلة للتلاعب
والتقطيع والتركيب بما يخدم خطابًا معينًا.
بذلك يصبح المتلقي
أمام واقع مُصنَّع، Reality Show ضخم، تختلط
فيه الحقائق بالسيناريوهات. وما يزيد الأمر خطورة هو أنّ هذا الواقع المصنَّع يُقدَّم
للجمهور باعتباره حقيقة مطلقة لا تحتمل النقاش.
سادسًا: صناعة الاستهلاك
وتشييء الإنسان
من زاوية أخرى، يربط
راموني بين الإعلام والاستهلاك. فالإعلام المعاصر ليس فقط ناقلًا للأخبار، بل هو أيضًا
أداة تسويق ضخمة. الإعلانات التجارية التي تغزو القنوات والصحف والشبكات الاجتماعية
تجعل الإنسان يعيش في حالة إغواء دائم، حيث تُختزل هويته في كونه مستهلكًا لا مواطنًا.
هذا التشييء للإنسان،
حيث يُنظر إليه باعتباره مجرد هدف تسويقي، يؤدي إلى إفراغ الفضاء العام من النقاش الحقيقي.
بدلًا من أن يكون الإعلام مساحة للحوار السياسي والفكري، أصبح سوقًا للمنتجات والصور
والرموز.
سابعًا: الحاجة إلى
"السلطة الخامسة"
كردّ على هذا الطغيان،
يدعو راموني إلى تأسيس ما يسميه "السلطة الخامسة"، وهي حركة مدنية لمراقبة
الإعلام ومساءلته. الغاية من هذه السلطة ليست تقييد الإعلام أو فرض وصاية جديدة، بل
إعادة التوازن بين حرية الإعلام ومسؤوليته.
هذه الدعوة تنطلق من
إدراك أن الديمقراطية لا يمكن أن تستمر ما لم يكن هناك إعلام مسؤول وشفاف. فالحرية
الإعلامية، حين تتحول إلى طغيان أو احتكار، تفقد معناها، وتتحوّل إلى أداة لإعادة إنتاج
الاستبداد بوسائل ناعمة.
تقييم نقدي للكتاب
نقاط القوة
شمولية التحليل: يجمع
الكتاب بين البعد السياسي والاقتصادي والثقافي في رؤية واحدة متماسكة.
لغة تحريضية: يعتمد
راموني لغة نقدية قوية تجعل القارئ في حالة وعي بالخطورة الكامنة وراء الإعلام.
طرح بدائل: لا يكتفي
بالنقد، بل يقترح حلولًا عملية مثل "السلطة الخامسة"، وهو ما يميزه عن كثير
من الكتابات التشاؤمية.
نقاط الضعف
نزعة دعوية: يغلب على
الكتاب الطابع التحريضي أكثر من الطابع الأكاديمي الصارم، مما قد يجعله عرضة للانتقاد
العلمي.
إهمال المتلقي: يركّز
على سلطة المؤسسات الإعلامية ويقلّل من قدرة الجمهور على المقاومة أو التأويل النقدي.
انتقائية الأمثلة:
بعض الحالات التي يستشهد بها، مثل أزمات دول بعينها، لا تكفي لتعميم الحكم على الوضع
الإعلامي العالمي.
الإعلام العربي وسياق
«طغيان الاتصال»
إذا نقلنا هذا التحليل
إلى السياق العربي، سنجد أن أطروحات راموني تكتسب أهمية مضاعفة. فالإعلام العربي يعاني
من مزيج معقد من الهيمنة السياسية والاقتصادية، حيث تتحكم فيه في كثير من الأحيان الدول
أو رجال الأعمال المتحالفون مع السلطة. وهو ما يجعل الإعلام أداة للدعاية أكثر منه
مساحة للنقد.
إضافة إلى ذلك، يشهد
العالم العربي انفجارًا في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، مما ولّد بيئة جديدة من
المعلومات المضللة والأخبار الزائفة، وهو ما يتقاطع مباشرة مع فكرة راموني عن
"فيض المعلومات" الذي يحجب الحقيقة بدل أن يكشفها.
خاتمة: نحو وعي نقدي
جديد
يأتي كتاب «طغيان الاتصال»
ليضعنا أمام مرآة قاسية تعكس واقع الإعلام في عصر العولمة. فالطغيان هنا لا يتجسد في
الديكتاتوريات التقليدية، بل في سطوة الإعلام نفسه حين يتحوّل إلى أداة شاملة لإعادة
إنتاج النظام السياسي والاقتصادي.
غير أنّ أهمية الكتاب
تكمن في أنه لا يترك القارئ في حالة يأس، بل يفتح أفقًا للمقاومة عبر الدعوة إلى سلطة
خامسة مدنية، تُعيد للمجتمع حقه في مراقبة الإعلام ومساءلته. إنّ هذا الوعي النقدي
هو الشرط الأول لبناء ديمقراطية حقيقية، حيث يكون الإعلام خادمًا للحقيقة لا سيدًا
متسلطًا على العقول.
0 التعليقات:
إرسال تعليق