الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الاثنين، سبتمبر 01، 2025

المقارنة الاجتماعية وتآكل تقدير الذات في العصر الرقمي: عبده حقي


أستعيد اليوم المفارقة التي جعلت الفضاء الرقمي، كمساحة للحرية والتعبير الفردي، يتحول إلى مرآة قاسية تعكس هشاشتنا أكثر مما تعكس قوتنا. لم تعد الهواتف الذكية مجرد أدوات للتواصل، بل غدت حقولاً ممتدة للمقارنة المستمرة، حيث يُقاس نجاحنا بمدى بريق حياة الآخرين على الشاشات. وكأننا أمام سوق رمزي ضخم، تُعرض فيه الذوات كما تُعرض السلع، وتُستهلك كما تُستهلك المنتجات.

تذكّرني هذه الظاهرة بما كتبه عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو عن "رأس المال الرمزي"، فالحياة الرقمية أفرزت أنماطاً جديدة من الهيمنة، حيث تتحول الصور والإعجابات والمتابعات إلى عملة غير مرئية تقرر مكانة الفرد في هذا الكون الافتراضي. ولا يختلف الأمر كثيراً عن أطروحة ليون فيستنغر في خمسينيات القرن العشرين حول "نظرية المقارنة الاجتماعية"، حيث يرى أن الإنسان يقوّم ذاته من خلال قياسها بغيره. إلا أن ما كان يحدث بشكل محدود في الحياة اليومية، أصبح اليوم ظاهرة مضخمة بفعل خوارزميات منصات مثل إنستغرام وتيك توك وفيسبوك.

أشعر أحياناً أن هذه المنصات تشبه ما وصفه غي ديبور في كتابه «مجتمع المشهد

(La Société du Spectacle)، حيث لم يعد الواقع هو ما نحياه بل ما نعرضه. إننا نعيش داخل دائرة مغلقة: ننتج صوراً كي يرانا الآخر، ثم نقيس قيمتنا بردود الأفعال، فنستمد تقديرنا لذواتنا من إشارات سطحية أشبه بالتصفيق الرقمي. وكأن تقدير الذات، الذي كان يرتبط في الماضي بالإنجاز الفعلي أو بالعمق الثقافي والأخلاقي، أصبح رهينة رموز افتراضية لا تدوم أكثر من لحظة.

وقد تجلت خطورة هذه الظاهرة خلال العقد الأخير في تقارير صحفية ودراسات أكاديمية تربط بين تصاعد معدلات الاكتئاب والقلق لدى المراهقين وكثرة استخدام شبكات التواصل الاجتماعي. ففي تقرير نشرته «The Lancet Child & Adolescent Health» عام 2019، أظهرت الإحصاءات أن الفتيات المراهقات اللواتي يقضين أكثر من ثلاث ساعات يومياً على منصات التواصل أكثر عرضة للاضطرابات النفسية. هذه الأرقام لا تكشف فقط عن أزمة جيل، بل عن تحوّل عميق في كيفية تشكّل علاقة الفرد بذاته في العصر الرقمي.

وما يثير قلقي أكثر هو أن المقارنة الاجتماعية لم تعد تتعلق فقط بالمظاهر المادية أو أسلوب الحياة، بل امتدت إلى القيم والمعايير نفسها. فالأفراد يسعون اليوم إلى بناء صورة "الذات المثالية" التي تتوافق مع أذواق الجمهور الرقمي، حتى لو كان ذلك على حساب حقيقتهم الداخلية. في هذا السياق، يصبح الإنسان مثل ممثل يتقمص أدواراً متغيرة ليرضي جمهوراً مجهولاً، فيما يختفي صوته الأصيل شيئاً فشيئاً. يشبه الأمر ما أشار إليه زيجمونت باومان في مفهومه عن "الحداثة السائلة"، حيث تذوب الهويات وتفقد تماسكها تحت ضغط التغير المستمر.

لكن، هل نحن محكومون بالاستسلام لهذه المرايا الإلكترونية؟ أظن أن الوعي النقدي يشكّل خطوة أولى نحو التحرر. فكما يشير ميشيل فوكو في تحليله لعلاقة السلطة بالمعرفة، فإن إدراك آليات التحكم يفتح المجال لمقاومتها. إذا استطعنا أن نرى في هذه المقارنات مجرد بناء اجتماعي مدعوم بخوارزميات، سنتمكن من إعادة تعريف علاقتنا بأنفسنا، ومن بناء تقدير ذاتي يستند إلى قيم أعمق من مجرد صور عابرة أو تعليقات متسرعة.

إن المعركة الحقيقية في هذا العصر ليست مع الآخر الذي نراه على الشاشة، بل مع صورة "الأنا" التي صنعها هذا العالم الرقمي في أعماقنا. علينا أن نتعلم كيف نفكك هذه الصورة، كيف نستعيد ذواتنا من أيدي السوق الافتراضي، وكيف نعيد لتقدير الذات جوهره الإنساني القائم على الوعي والمعرفة والإنجاز الحقيقي. وكما كتب إيريك فروم في «فن الحب»، فإن الحب للذات لا يعني الأنانية، بل هو الشرط الضروري كي نحب الآخرين ونعيش بكرامة. ربما آن الأوان أن نعيد هذا المعنى إلى صدارة وجودنا، قبل أن نذوب تماماً في صخب المرايا الرقمية.

0 التعليقات: