كشفت تصريحات عبد القادر بنا زعيم الحزب الإسلامي الجزائري المثير للجدل عن توجيهٍ وزاري مزعوم لتضخيم الإحصاءات وتعديل المؤشرات قبل رفعها إلى رئاسة الجمهورية عن معضلة أعمق من حدثٍ عابر: إنها أزمة شرعية معلوماتية تهزّ صميم صناعة القرار. فالدولة الحديثة تقوم على “حكم الأرقام”؛ وإذا اهتزّت مصداقية البيانات، اهتزّ معها التسلسل كله: التخطيط، التقييم، ثم المساءلة. بغضّ النظر عن صحة الادعاءات أو بطلانها، فإن ما قيل يكشف هشاشة واضحة في منظومة إنتاج المعلومة العمومية وتداولها ومراقبتها.
الشرعية السياسية لا
تُستمد فقط من الانتخابات أو النصوص الدستورية، بل من موثوقية المعلومة التي تُبنى
عليها السياسات. إن تزوير المؤشرات—إن صح—يعني التحايل على آليات توزيع الموارد وتحديد
الأولويات وتقييم الأداء. وحين تُضخَّم نسب الإنجاز أو تُخفض معدلات البطالة والفقر
مثلاً، تُصاغ سياسات غير متناسبة مع الواقع، فتتراكم الإخفاقات ويُعاد إنتاج الأزمة
بدل معالجتها. بهذا المعنى، تتحول الإحصاءات من أداة للحكم الرشيد إلى أداة لـ“تسويق
الإنجاز”.
إن النظام الجزائري
يجمع بين رئاسة قوية وبيروقراطيات وزارية واسعة النفوذ. في مثل هذه البنى، تنشأ حوافز
داخلية لتلميع حصيلة القطاعات، خصوصاً مع اقتراب تعديلات حكومية أو تقييمات سنوية.
البيروقراطيةُ التي تُكافَأ على “الأرقام الجيدة” قد تميل—غياباً للرقابة الدقيقة—إلى
إعادة هندسة المؤشرات. وحين تتكامل هذه الذهنية مع ثقافة عمودية في تدفق المعلومة
(من المديريات الجهوية إلى الديوان الوزاري ثم إلى الرئاسة)، يصبح الخطأ المنهجي (أو
التلاعب) قابلاً للانتشار بلا مقاومة مؤسسية كافية.
إن المساءلة الفاعلة
تتطلب تقاطُع قنوات رقابية: برلمان يملك أدوات التحقيق، هيئات تدقيق مستقلة، وقضاء
قادر على التحرك الذاتي. إذا كانت المبادرة إلى كشف الخلل تأتي عبر مهرجان حزبي لا
عبر مسطرة برلمانية أو قضائية، فهذا دليل على عطب في المسارات المؤسسية للمساءلة. حتى
لو كانت الادعاءات صحيحة، فإن القناة التي سلكتها—منبر جماهيري—تعني أن السياسة طغت
على القانون، وأن الدولة تُدار بالضغط الإعلامي أكثر مما تُدار بالقواعد.
من مفارقات اللحظة
أن فاعلاً ذا سجلٍّ شعبوي يمكن أن يتقمص دور “المبلّغ”. هنا يتقاطع مكسب الخطاب مع
خسارة المؤسسية: إذ قد تتحول مكافحة الفساد إلى أداة تعبئة بدل أن تكون برنامج إصلاح
مُقنن. ينتج عن ذلك استقطابٌ يُضعف الثقة المتبادلة بين أجهزة الدولة والفاعلين السياسيين،
ويزرع الشك في كل رقم يصدر، ولو كان صحيحاً، لأن “سُمعة البيانات” تضررت.
في اقتصاد يعتمد جزئياً
على الريع وتوزيع المنافع، يصبح “الرقم الجيد” عملة سياسية: يضمن بقاء المسؤول، ويجلب
الاعتمادات، ويُسوّق سردية الاستقرار. ريعية المؤشرات هذه تدفع إلى تضخيم المنجز وإخفاء
الفشل. ومن ثمّ، فإن أي فضيحة تتعلق بسلامة البيانات لا تُصاب بها وزارة بعينها، بل
سلاسل التوريد المعلوماتي من المندوبية المحلية إلى التقرير الحكومي العام.
المؤسسات المالية الدولية
والمستثمرون والهيئات الإحصائية الإقليمية يتعاملون مع الدول عبر قنوات بيانات رسمية.
التشكيك العلني في هذه القنوات يهدد تصنيف المخاطر ويمسّ تكلفة التمويل ويؤثر في الثقة
بالتعهدات الحكومية. حتى في حال فتح تحقيق وانتهائه إلى نفي التلاعب، فإن أثر الشك
يبقى زمنياً أطول من خبر النفي، ما لم تُتخذ إجراءات إصلاحية تُظهر تغييراً في قواعد
اللعب.
القانون الجزائري—وفق
التعديلات المتعلقة بتجريم الأخبار الكاذبة—يوفّر إطاراً لمعالجة الوقائع عبر القضاء.
لكن الفارق بين نص القانون وممارسة القانون هو المحكّ. إذا ظلّت الاتهامات في الفضاء
العمومي ولم تُترجَم إلى مساطر رسمية سريعة، فستتغذى رواية “العدالة الانتقائية” من
جهة، و“التوظيف السياسي للقضاء” من جهة أخرى. كلاهما يُضعف هيبة القانون ويجعل الحقيقة
رهينة التأويل.
هناك ثلاثة
سيناريوهات محتملة:
أ) صحة الادعاءات جزئياً
أو كلياً: حينها نحن أمام فضيحة حوكمة تستدعي إقالة/محاسبة المسؤولين، ومراجعة جنائية
وإدارية لسلاسل إنتاج البيانات، وربما إعادة نشر مؤشرات مصحّحة.
ب) عدم صحة الادعاءات:
ستتحول القضية إلى اختبار لـحياد القضاء وحدود خطاب الفاعلين الشعبويين، مع خطر ترسيخ
معادلة “الردع بدل الإصلاح”، ما يُفاقم الاحتقان.
ج) تسوية سياسية بلا
تحقيق شفاف: وهو أخطرها على المدى البعيد، إذ تُدفن القضية ويستمر تآكل الثقة وتُطبع
المؤسسة مع ضجيج الاتهامات من دون معالجة بنيوية.
الثقة ليست شعوراً
مجرداً؛ إنها عقد معرفي بين الدولة والمجتمع قوامه: بيانات يمكن التحقق من صحتها، ومساطر
مساءلة متاحة، ونتائج قابلة للنشر والمتابعة. كلما زادت الفجوة بين الخطاب الرسمي والتجربة
اليومية للمواطن، كلما تضخّم الشعور بأن الأرقام لا تصف الواقع. هذا العقد لا يُرمَّم
بخطابات، بل بإجراءات تقنية ومؤسسية قابلة للقياس.
أجندة إصلاح عملية
استقلال الإحصاء: تحصين
الديوان/المعهد الوطني للإحصاء بقانون يضمن استقلال ميزانيته ومساطر تدقيقه وإتاحة
قواعد بياناته للباحثين.
سلاسل تتبّع رقمية (Audit Trails): رقمنة دورة المؤشر من مستوى الولاية إلى الوزارة
مع سجلات لا يمكن تعديلها دون أثر، ومطابقةٍ تلقائية مع مصادر ثالثة (جمارك، ضرائب،
خزينة).
حماية المبلّغين: آلية
آمنة وسرية مع حصانة قضائية للمبلّغ حسن النية، حتى لا يبقى “المنبر الحزبي” بديلاً
عن القنوات القانونية.
لجان برلمانية ذات
آجال ونتائج مُلزمة: تحديد مهل التحقيق والنشر العلني للتوصيات وخطط التنفيذ، وربط
الاعتمادات المالية بتنفيذها.
تدقيق خارجي دوري:
إلزام القطاعات ذات الحساسية العالية (المالية، الشؤون الاجتماعية، التشغيل…) بتدقيقات
مستقلة تُنشر خلاصاتها.
توحيد التعاريف والمنهجيات:
اعتماد معايير دولية في احتساب المؤشرات (منهجيات منظمة العمل الدولية، نظام الحسابات
القومية…) لمنع “الهندسة التعريفية” للأرقام.
منصة بيانات مفتوحة:
نشر مجموعات البيانات القابلة للتنزيل بصيغ معيارية مع توثيق كامل، بما يتيح للمجتمع
الأكاديمي والإعلام التحقق وإعادة التحليل.
ختاما سواء أثبت التحقيق
صحة الاتهامات أم لا، فإن الرسالة البنيوية وصلت: الشرعية السياسية في الجزائر تمرّ
اليوم عبر استعادة شرعية الرقم. لا يكفي أن يُقال “سنتصدى للمزوّرين”؛ المطلوب هندسة
مؤسسية تمنع التزييف قبل وقوعه، وتدقق المؤشر وهو في طور الإنتاج، وتؤسس لمساءلة تُقاس
بنتائجها لا بضجيجها. عندها فقط يمكن للسياسة أن تستعيد ركينتها، وللمجتمع أن يثق بأن
ما يُرفع إلى رئاسة الجمهورية وإلى الرأي العام هو صورة الواقع لا صورة الرغبة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق