الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، سبتمبر 27، 2025

محاورات بين فلاسفة ومفكرين معاصرين (7) إدوارد سعيد وميشيل فوكو : عبده حقي


بين عامي 1979 و1983، اجتمع اثنان من أكثر المفكرين تأثيرًا في الفكر النقدي المعاصر: الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد والفرنسي ميشيل فوكو. كانت لقاءاتهما، التي دارت حول الاستشراق والخطاب والإمبريالية الثقافية، بمثابة مختبر فكري لفهم آليات السلطة وكيفية عملها في إنتاج المعرفة وتوجيه الثقافة. هذه الحوارات لم تكن مجرد تبادل نظري بين ناقد أدبي ومؤرخ للأفكار، بل كانت لحظة مفصلية في التفكير النقدي العالمي، حيث التقى الشرق والغرب في جدل حول المعرفة والهيمنة، وحول قدرة المثقف على مقاومة الخطاب المهيمن.

تأتي أهمية هذه الحوارات من أنها جمعت بين مشروعين متوازيين لكن متقاطعين: مشروع سعيد في تفكيك الخطاب الاستشراقي، ومشروع فوكو في تحليل بنية السلطة وآلياتها المتغلغلة في المعرفة. كلاهما أدرك أن الخطاب ليس مجرد انعكاس للواقع، بل هو قوة منتجة، تخلق "الحقيقة" وتعيد صياغة العالم وفق منطق السلطة.

بالنسبة لإدوارد سعيد، شكل كتابه الشهير الاستشراق (1978) نقطة انطلاق لهذه النقاشات، حيث كشف كيف أن الدراسات الغربية عن الشرق لم تكن محايدة، بل أداة لتكريس الهيمنة الاستعمارية. في المقابل، كان فوكو قد بلور أدوات تحليلية لفهم العلاقة بين السلطة والمعرفة، خصوصًا في أعماله مثل المراقبة والمعاقبة وأركيولوجيا المعرفة. اللقاء بينهما جعل النقد الأدبي والسياسي أكثر قربًا من النظرية الفلسفية حول السلطة.

ما يميز هذه الحوارات هو التوتر الخلاق بين موقفيهما. فوكو، بتركيزه على البنى الخطابية المجردة، كان أحيانًا يبتعد عن صراعات التحرر الوطنية التي كان سعيد يضعها في قلب تحليله. سعيد، من جانبه، كان يلح على دور الإمبريالية الغربية في تشكيل الصور النمطية التي تجعل الشرق "موضوعًا" للسيطرة. ومع ذلك، فإن كليهما اتفق على أن الثقافة ليست بريئة، وأنها جزء من شبكة السلطة التي تحدد من يتكلم، ومن يُسكت، ومن يمتلك شرعية القول.

الجانب العملي لهذه الحوارات يظهر في أثرها العميق على الدراسات ما بعد الكولونيالية. فقد ساعدت على توسيع آفاق النقد من تحليل النصوص إلى تحليل الخطابات الكبرى التي تحدد مواقع الشعوب والثقافات في العالم. أصبحت الجامعة، والصحافة، والإنتاج الفني ساحات للصراع الرمزي، حيث تُعاد صياغة معادلات القوة.

لكن الأهم أن سعيد وفوكو قدما نموذجًا للمثقف النقدي الذي لا يقف عند حدود التخصص الضيق. فالمثقف عندهما ليس مجرد باحث أكاديمي، بل شاهد على عصره، يسائل المسلمات ويفضح ما هو مستتر خلف اللغة. في زمن العولمة، حيث تتداخل الخطابات بين الإعلام والسياسة والاقتصاد، يظل هذا الدرس حاضرًا بقوة: الخطاب يصنع الواقع، والهيمنة تبدأ من اللغة.

ولعل ما يجعل هذه الحوارات حية حتى اليوم هو قدرتها على طرح أسئلة تتجاوز زمنها. كيف نقرأ تمثيلات "الآخر" في السينما والإعلام المعاصر؟ كيف نفهم خطاب "مكافحة الإرهاب" أو "الهجرة" أو حتى "التنمية" من منظور علاقته بالسلطة؟ هذه كلها امتدادات للأسئلة التي ناقشها سعيد وفوكو منذ أربعة عقود.

إن استحضار هذه الحوارات اليوم لا يعني مجرد تكريم إرث مفكرين بارزين، بل هو دعوة لإعادة التفكير في علاقتنا بالمعرفة والثقافة. ففي عالم يزداد فيه الخلط بين الحقيقة والدعاية، وبين البحث العلمي وأجندات الهيمنة، نحتاج إلى يقظة نقدية شبيهة بتلك التي جسدها سعيد وفوكو. المثقف مطالب بأن يكون مقاومًا للخطاب المهيمن، لا مجرد مفسر له، وأن يعيد للثقافة دورها كأداة للتحرر لا كآلية للسيطرة.

لقد شكلت حوارات سعيد وفوكو حول السلطة والثقافة علامة فارقة في الفكر النقدي المعاصر. فهي جمعت بين التحليل الفلسفي الدقيق للخطاب، وبين الالتزام السياسي بقضايا التحرر. وما تزال قيمتها قائمة في قدرتها على إضاءة علاقة الثقافة بالهيمنة، وتذكيرنا بأن المعرفة لا تنفصل عن السلطة. وفي زمن العولمة المتسارعة، يصبح استلهام هذا الحوار ضرورة لفهم موقعنا في شبكة الخطابات التي تحدد حاضرنا ومستقبلنا.

0 التعليقات: