الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الثلاثاء، سبتمبر 30، 2025

محاورات بين فلاسفة ومفكرين معاصرين (9) يورغن هابرماس وجاك دريدا: عبده حقي


في خريف 2003، اجتمع فيلسوفان من أبرز رموز الفكر الأوروبي المعاصر، يورغن هابرماس وجاك دريدا، في حوار استثنائي عقب أحداث 11 شتنبر 2001. هذا اللقاء لم يكن مجرد تبادل أكاديمي للأفكار، بل لحظة فلسفية نادرة حاولت إعادة التفكير في معنى الديمقراطية، والعنف، ودور أوروبا في عالم مضطرب بين الهيمنة الأميركية وصعود الإرهاب العابر للحدود. في مواجهة التفكك السياسي وارتباك القارة العجوز، دعا هابرماس ودريدا إلى تأسيس وعي أوروبي جديد، يستند إلى قيم التعددية والتواصل النقدي، ويتجاوز ثنائية القوة والعجز التي خيّمت على المشهد الدولي.

الحوار الذي جمع هابرماس ودريدا في 2003 يمكن اعتباره وثيقة فكرية تؤرخ لمرحلة انتقالية حرجة في تاريخ أوروبا. فبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وجدت القارة نفسها في فضاء سياسي غير مستقر، تبحث عن مكانها بين الهيمنة الأميركية المتصاعدة من جهة، وبين التهديدات الأمنية الجديدة التي فجّرها هجوم 11 شتنبر من جهة ثانية. لقد كان السؤال الجوهري هو: ما الذي يمكن أن تقدمه أوروبا للعالم في زمنٍ صار فيه العنف لغة السياسة المهيمنة؟

هابرماس، المنظّر الألماني للعقلانية التواصلية، رأى في اللحظة فرصة لتعزيز المشروع الأوروبي بوصفه نموذجًا لسياسة ما بعد قومية. بالنسبة إليه، كان الاتحاد الأوروبي أكثر من مجرد تكتل اقتصادي أو مؤسسة بيروقراطية؛ بل هو تجربة تاريخية لإقامة ديمقراطية تتجاوز الحدود الوطنية، وتمنح الشرعية من خلال النقاش العمومي والتوافق العقلاني. هذا التصور أعاد الاعتبار لفكرة أن أوروبا يمكن أن تمثل بديلاً للمنطق الإمبراطوري الأميركي القائم على التدخل العسكري الأحادي، مثلما حدث في غزو العراق سنة 2003.

في المقابل، جاء صوت جاك دريدا، الفيلسوف الفرنسي المشاغب، ليضيف بعدًا آخر. فبينما شارك هابرماس رؤيته عن ضرورة بناء هوية أوروبية سياسية، ركّز دريدا على مفهوم "الاختلاف" (différance) كشرط لتجاوز النزعات الإقصائية التي كثيرًا ما رافقت تاريخ أوروبا. أوروبا، في نظره، لا يمكن أن تعود إلى مركزية ثقافية متعالية، بل يجب أن تعترف بجراحها الاستعمارية، وبالتعدد الذي يكوّن نسيجها. ومن هنا، دعا إلى "وعي أوروبي جديد" قادر على الإصغاء للآخر، سواء كان هذا الآخر المهاجر أو الضحية أو المختلف ثقافيًا ودينيًا.

ما يجعل الحوار بين الفيلسوفين مثيرًا هو التقاء مسارين فكريين طالما وُضعا في تضاد. هابرماس، الذي يجسد تقليد الحداثة النقدية والتواصل العقلاني، وجد نفسه إلى جانب دريدا، أيقونة ما بعد الحداثة والتفكيك. إلا أن أحداث 11 شتنبر وحدت بينهما في إدراك أن اللحظة التاريخية تفرض تجاوز الخصومات النظرية القديمة. فكلاهما أدرك أن الديمقراطية الليبرالية مهددة، وأن مواجهة الإرهاب لا يمكن أن تختزل في القوة العسكرية، بل تتطلب مشروعًا ثقافيًا وسياسيًا يعيد تعريف معنى المواطنة والعيش المشترك.

من هذا المنظور، يمكن القول إن حوار 2003 مثّل لحظة نادرة حاول فيها الفلاسفة التدخل المباشر في النقاش العمومي. لقد دعا الرجلان إلى خروج جماهيري أوروبي يوم 15 فبراير 2003، في تظاهرات ضد حرب العراق، معتبرين أن الحراك المدني يعكس إمكانية بناء هوية سياسية عبرية ـ عابرة للحدود ـ تستند إلى الاحتجاج السلمي والوعي الجماعي. هذا الربط بين النظرية والممارسة، بين الفلسفة والشارع، أعاد الاعتبار لدور المثقف كفاعل سياسي وأخلاقي.

لكن، هل استجابت أوروبا لهذا النداء؟ الواقع أن القارة بقيت مترددة، ممزقة بين ولاءاتها الأطلسية وخلافاتها الداخلية. ومع ذلك، فإن حوار هابرماس ودريدا ظل علامة فارقة لأنه كشف هشاشة المشروع الأوروبي من جهة، وإمكانياته الكامنة من جهة أخرى. ففي زمن تتعاظم فيه النزعات القومية والشعبوية، تظل رسالتهما حول ضرورة "وعي أوروبي جديد" أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.

من الناحية النظرية، يقدم الحوار دروسًا عميقة حول العلاقة بين الديمقراطية والعنف. فهابرماس شدد على أن الشرعية السياسية لا يمكن أن تُبنى بالقوة العسكرية، بل عبر النقاش العمومي والاحتكام إلى القانون الدولي. أما دريدا فذهب أبعد حين حذر من أن ردود الفعل العنيفة على الإرهاب قد تعيد إنتاج منطق الإرهاب نفسه، عبر تأسيس حالة دائمة من الاستثناء والقمع. هذه الرؤية استباقية، خصوصًا إذا نظرنا إلى ما حدث لاحقًا من توسع قوانين الطوارئ والمراقبة في أوروبا بعد هجمات مدريد 2004 ولندن 2005.

كما يطرح الحوار سؤالًا عميقًا عن هوية أوروبا. هل هي مجرد كيان اقتصادي يسعى إلى المنافسة في السوق العالمية؟ أم أنها مشروع حضاري أخلاقي قادر على تقديم بديل للعالم في مواجهة منطق الهيمنة والعنف؟ بالنسبة لهابرماس ودريدا، لا يمكن لأوروبا أن تختبئ خلف قوتها الاقتصادية أو خلف ناتو، بل يجب أن تجرؤ على أن تكون ذاتها، أي أن تبتكر طريقًا خاصًا في السياسة العالمية.

إن قيمة هذا الحوار تكمن أيضًا في كونه يعكس لحظة نادرة من المصالحة بين عقلانية هابرماس وتفكيكية دريدا. فقد اتفقا على أن الديمقراطية مشروع مفتوح، هشّ دائمًا، لكنه يظل الأفق الوحيد الممكن لمواجهة العنف والفوضى. هذه الرسالة تحمل بعدًا كونيًا، لأنها لا تخص أوروبا وحدها، بل كل المجتمعات التي تسعى إلى التوفيق بين الأمن والحرية، بين الوحدة والتعدد.

في النهاية، يمكن القول إن حوار هابرماس ودريدا سنة 2003 لم يكن مجرد نقاش فلسفي ظرفي، بل كان نداءً سياسيًا وأخلاقيًا ما زال صداه يتردد. ففي عالم ما بعد 11 شتنبر، حيث تتقاطع الحروب مع الإرهاب، وحيث تعود النزعات القومية والشعبوية بقوة، يظل السؤال الذي طرحه الفيلسوفان قائمًا: هل تستطيع أوروبا أن تقدم نموذجًا آخر للعالم، قائمًا على الديمقراطية والتعددية والتواصل؟ أم أنها ستظل أسيرة تناقضاتها، عالقة بين التبعية للولايات المتحدة وبين عجزها عن صياغة مشروعها المستقل؟

قد لا نجد جوابًا نهائيًا اليوم، لكن ما هو مؤكد أن الفلسفة، عبر أصوات مثل هابرماس ودريدا، لا تزال قادرة على إنارة الطريق، حتى في أحلك اللحظات.

0 التعليقات: